سعيد غريّب

فؤاد شهاب وخريطة طريق

12 شباط 2024

02 : 00

«انّ عمر ولايتي لم يكن ست سنوات بل سنتين، من العام 1962 إلى العام 1964. في السنوات الأولى كان عليّ أن أزيل رواسب العام 1958، وأن أساير يميناً ويساراً، وأن أسترضي الزعماء والأحزاب، أي أن أعيد القطار اللبناني إلى السكّة. ولكنني كنت أعتقد دائماً أنّ المشكلة في لبنان، وفي معظم المجتمعات هي مشكلة اجتماعية اقتصادية، وأنّ أيّ اصلاح سياسي أو انتخابي يبقى سطحياً وموقتاً ومحدود الفائدة اذا لم يقترن باصلاح اقتصادي اجتماعي». هذا الكلام نقله عن الرئيس فؤاد شهاب الأستاذ باسم الجسر.

لم يكن الرئيس شهاب ثورياً ولا اشتراكياً ولا يسارياً، ولكنّه أدرك أنّ الرأسمالية المتوحّشة أو الليبرالية المطلقة، التي يطبّقها رجال الأعمال، ستؤدي إلى توسيع شقّ التباين بين الفئات والطبقات، كما أدرك، بعد الدراسات التي وضعتها «بعثة أرفد»، أنّه من الضروريّ تطوير الاقتصاد اللبناني، تدريجياً، نحو مزيد من الصناعة والانتاج، وانشاء المؤسسات اللازمة لعقلنة الاقتصاد، وإبعاده عن الاستغلال الجشع، وحمايته من الأزمات التي تهدّد أيّ نظام اقتصادي حرّ في العالم. لم يكن يريد تغيير النظام الاقتصادي الحرّ ولكنّه كان يصرّ على بناء مؤسسات حديثة، على غرار ما فعلت الدول الغربية لحماية الاقتصاد والتخفيف من الاستغلال والظلم الاجتماعي.

ولكن بعد انتهاء ولايته في العام 1964 زاهداً في الحكم، رافضاً بشكل غير قابل للنقاش فكرة التجديد أو التمديد، وبالنظر إلى التطوّرات، التي شهدتها الساحتان المحلية والاقليمية حتى العام 1970، توقّف تنفيذ كلّ المشاريع الاجتماعية التي وضعها شهاب، وانتقلت البلاد إلى عصر جديد، مهّد للحرب التي استمرّت خمس عشرة سنة. وبعد مرور أكثر من نصف قرن على التجربة الشهابية، ماذا بقي منها أو من جوهرها وروحها؟ وإلى أين ستؤول الأمور في البلاد «المكربجة» والمعطّلة والمنهارة؟

تغرقنا اليوم مؤشرات مخيفة حول الفساد تدين البلاد والعباد، وترانا مواطنين متروكين لمؤسسات متآكلة وعاجزة وادارات مفرّغة ومعطّلة. فبتنا نسأل عن سبل العودة إلى ذلك النفس الاصلاحي، الهادف إلى تنمية مجتمعنا وتطوير أحوال أبنائه ومنحهم الاستقرار والطمأنينة. في ما مضى كانت وزارة التصميم، ويوم طمرت توزّعت على أربع وعشرين حقيبة من دون أن يبقى من التصميم سوى تثبيت الحقائب لأصحابها. وقد قيل، قبل الأزمة الأخيرة، أنّ وزارة التنمية الادارية تعمل على إصلاح في قلب الوزارات لاستحداث قسم التصميم الاستراتيجي في كلّ منها؟ فماذا حلّ بوزارة التنمية الادارية نفسها بعدما أفرغت من خبرائها، بل ماذا حلّ بالمؤسسات كلّها؟ في ظل الفراغ القاتل داخل الادارات أين وكيف تحفظ الذاكرة المؤسسية للجهود الخيّرة التي بذلت رغم الصعوبات؟ قيل يوماً إنّ المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي استحدثه اتفاق الطائف من ضمن مجموعة المجالس سيكون مكان الحوار ومنبع الحلول، فأين هو اليوم وقد بات لعجزه وكأنه متوقف عن العمل منذ اليوم الاول لانشائه؟

ماذا حلّ بالطرقات والكهرباء والمياه والتعليم والاستشفاء والخدمات والتقديمات؟ الطرقات تقصّر الأعمار ووسائل النقل العام معدومة. الكهرباء بلا نور، المياه كانت عذبة، التعليم يوزّع الشهادات على المستحقّين والفاشلين، الخدمات مؤمّنة للذين يسمعون الكلمة ويمارسون فعل الطاعة، التقديمات لمن له مونة على النافذين. هل هناك بعد فرصة أمام حكم جديد وعهد جديد وارادة جديدة مع عدم اغفال حقائق مرّة تمثّلت بتفويت حكّام لبنان عشرات الفرص، على مدى عشرات السنين، تارة بالافتقار إلى الذكاء، وتارة اخرى بسبب الفائض في الذكاء الهدّام؟

الواقع يقول إنّ لبنان يقف اليوم أمام مفترق بين أن يكون أو لا يكون، بين أن يبقى موحّداً أو يزول، بين أن يعود موطن الحرية والديموقراطية والانفتاح أو أن يفقد مبرر وجوده، بين أن يصون هويّته ومعها دوره ورسالته أو أن يفقد كل هوية ومعها طموحه أن يبلغ مصاف الدول المستقرّة والمزدهرة. وأذا كنّا عاجزين عن ايجاد حلّ لخلافاتنا الداخلية، في مرحلة يكتب فيها مصيرنا لأجيال وأجيال، فكيف نكون شعباً يستحق الحياة؟!

إنّ المطلوب اليوم، وبعكس المنطق الشهابي بفعل تحلّل الدولة، الاصطلاح في السياسة أوّلاً لتصطلح في الاقتصاد، ومتى اصطلحت في الاقتصاد تصطلح في المجتمع، ومتى اصطلحت في المجتمع تصطلح ضمن العائلة التي تشهد تفككاً مرعباً لم يسبق له مثيل، ولم تعد تنشد سوى الاستقرار واللجوء إلى الطبيعة المفقودة.