كلّما أزمةٌ أزمت كان فؤاد شهاب يطلب العودة إلى «الكتاب»؟ أي إلى الدستور. بعد أن تردت أحوال الدولة وغاب عنها رجالها بتنا نحتاج إلى كتابين، الدستور وسيرة فؤاد شهاب. الأول يعمل الحكام الميليشيويون على إخفائه تحت ركام تأويلات واجتهادات يطلقها أميون في علم القانون. أما سيرته فهي موجودة في ما تركه مستشارون ومعاونون وصحافيون من شهادات تحكي عن الأخلاق كشرط لازم لنجاح الحاكم.
إستعرنا عنوان المقالة من كتاب الصحافي نقولا ناصيف (دار النهار للنشر). يبدو فؤاد شهاب أخلاقاً تمشي على قدمين. قيم الترفع والنزاهة والحرص على المال العام جعلته يغادر الدنيا ولا يملك غير ما أورثه إياه أهله، وجعل زوجته تموت على سرير حديدي، فيما أولاد حكام اليوم يولدون وفي أفواههم ملاعق من ذهب.
السياسة في المقالة التالية. أما هذه فعن أخلاقه. إنما الأمم الأخلاق. لم يسع وراء مجد شخصي. الوطن همّه الأول والأخير. قال لحرسه الشخصي، إياكم أن تطلقوا النار على رفاق لكم في الجيش. إذا جاؤوا لاعتقالي سأذهب معهم، وإن إرادوا الرئاسة فليأخذوها بسلام. كل شيء إلا أن يطلق جندي منكم رصاصة على جندي آخر.
عندما حكمت المحكمة بتسريح أحد الضباط، أصر على عدم حرمانه من حقوقه المدنية ومن تعويضاته وراتبه التقاعدي، مع أنه متهم بالتخطيط مع جهات خارجية للانقلاب عليه في قيادة الجيش. ثم أصر على إصدار عفو عن المشاركين في محاولة الانقلاب العسكري عليه رئيساً للجمهورية. هؤلاء مواطنون لبنانيون عاملهم كما يتعامل أب مع أولاده إن أخطأوا.
أما حين تسلل ضابط سوري مع آخرين للقيام بأعمال تخريبية في لبنان، فقد رفض طلباً سورياً بترحيلهم وقال: «كي ينام اللبنانيون في أسرتهم، على البعثيين أن يناموا في السجن»، لم يوافق على ترحيلهم إلا بعد محاكمتهم. من زمان مضى كان لبنان بحاجة إلى أبراج مراقبة. قصة التسلل والمعابر غير الشرعية ظاهرة قديمة بين البلدين. ولا يعرف معنى السيادة الوطنية إلا من تحلى بإباء الأمير.
بالمعايير التي اعتمدها فؤاد شهاب في إدارة الحكم يعتبر عدم انتخاب رئيس للجمهورية انتهاكاً فاضحاً للدستور. وبمقتضى هذه المعايير ينبغي أن يحال منتهكو الدستور، ومعطلو الانتخابات رؤساء ونواباً ووزراء إلى المحاكمة، لأنه لا جمهورية من غير رئيس للجمهورية. ولا دولة من غير رئيس للدولة، ولا مؤسسات في غياب المؤسسة الأولى.
يقول ناصيف إنه استخرج قائمة مزاياه وفضائله من خطبه التي كان يملي أفكارها ويكتبها له مختصون، ومن مقابلات مع مساعديه في الجيش والإدارة والحكومات، فؤاد بطرس، أحمد الحاج، جان ناصيف، الأب لوبريه، ميشال بشارة الخوري وكثيرين سواهم، ذلك أنه «كان يزدري الثرثرة والثرثارين»، هذا قبل أن تصير وجوه حكام اليوم جزءاً من الشاشات وإن غابوا عنها فممثل شخصي لكل منهم يوزع على الصحافيين ابتسامات وتهديدات وأكاذيب.
«فضائل النزاهة والعدل والتجرد وقواعد العلم والنظام وروح المساواة والقيام بالواجب وحرمة المصلحة العامة». لائحة في عبارة واحدة، هي بعض من أخلاقه السياسية فيما بات التفريط بالمصلحة العامة هو عنوان السياسة في أيامنا. حتى في أيامه كان «أكلة الجبنة لا يمشون مع الوطن مجاناً».
كان يختار معاونيه استناداً إلى هذه المعايير بالذات: «تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الخاصة، بناء مؤسسات متطورة واحترام القانون والحرص على المال العام والنزاهة ونظافة الكف». أين من هذه كلها أوساخ حكام اليوم الذين أفرغوا خزينة الدولة في حسابات أحفادهم ووزعوا على شعبهم فقراً وجوعاً وتهجيراً وأرغموا كفاءاته على التفرق في أربع أرجاء الأرض لتخلو لأزلامهم الساحة فيعيثون فيها فساداً.