شربل شربل

كتابات تستحق النشر

رأس تركيّ (Tete de turc)

15 تموز 2020

02 : 00

في الثاني عشر من آذار، من العام ٢٠٠١، وبأمر من الملّا عمر، زعيم طالبان في أفغانستان، تمّ تفجير تماثيل بوذا في باميان الواقعة على طريق الحرير الذي يربط آسيا بأوروبا… يومها استنكر العالم المتمدّن هذا العمل الهمجيّ؛ واعتبر أدونيس ما حصل جريمة بحقّ الإنسانيّة والفنّ، لا تدميرًا للوثنيّة، بحسب ادّعاءات طالبان. وبطبيعة الحال، كان هنالك مؤيّدون، تدميريّون، دافعوا عن الجريمة والمجرمين، بعقول أغلقها الجهل، وأعماها التعصّب، وحدّها ضيق الأفق.

واليوم، وبعد "القرار التاريخيّ" الذي اتّخذه السلطان أردوغان بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، ينقسم الرأي العامّ حول تقييم ما أقدم عليه. وقد قرأت الكثير من التعليقات المتنوّرة المستنكرة، ولم يفاجئني كمُّ التعليقات المؤيّدة، وهشاشة مستواها الفكريّ، وقد استندت، في معظمها، إلى منطق القرون الخالية، منطق الغلبة والتسلّط، حيث كان الحقّ للقوّة، وحدها. وقد آثرت عدم الإدلاء بدلوي في مناقشة هذه القضيّة عملًا بنصيحة جورج برنارد شو القائل: "لا تناقش عاشقًا ولا متعصّبًا، فالأوّل ذو قلب أعمى، والثاني ذو عقل مغلق".





ولكنّ المنطق الشعبويّ الأعوج الذي استعمله أردوغان في تبرير فِعلته مثير للاستغراب، ولا يمتّ إلى العصور الحديثة بصلة، وقد استفزّني فبادرت إلى الكتابة.

من أبرز ما استند إليه أردوغان أنّ السلطان محمّد الفاتح أصبح، عندما فتح القسطنطينة عام ١٤٥٣،أمبراطورًا رومانيًّا، وبالتالي فإنّ أملاك الأسرة البيزنطيّة تؤول إليه وراثة، ومن ضمنها آيا صوفيا!

كذلك اعتبر قرار تحويل آيا صوفيا إلى متحف في العام ١٩٣٤"خيانة للتاريخ، وعملًا مضادًّا للقانون" وحجّته أنّها ملك لوقف السلطان محمّد، وقد أبرز صكًّا عثمانيًّا يثبت ذلك. وهذه الحجّة مردودة، وعلى قدر كبير من السخف بحيث أنّ مناقشتها مضيعة للوقت.

أمّا بشأن تغطية الفسيفساء البيزنطيّة، في محاولة لطمسها، فيقول" تمّت تغطيتها من أجل الحفاظ عليها من العوامل الخارجيّة". وكلّ زائر لآيا صوفيا يعرف أنّ الفسيفساء مغطّاة بطبقة سميكة من الطين الذي أزيل جزئيًّا، وتسببت إزالته بأضرار كثيرة…

دخلت آيا صوفيا، كما يدخلها ألوف السيّاح، بوصفها متحفًا أهداه أتاتورك للإنسانيّة عام ١٩٣٤، ولم أدخلها بوصفها مكانًا للعبادة. وهكذا دخلت الڤاتيكان، مع ألوف الداخلين، وقد ذهلنا بما رأيناه من عظمة الفنّ، ولم أرَ فيه مصلّيًا واحدًا؛ فالڤاتيكان متحف لتمجيد عبقريّة الإنسان وقبلة حضاريّة نهضويّة، يؤمّه غير المؤمنين، وغير المسيحيّين، كما يؤمّه المسيحيّون… وبالروحيّة نفسها دخلت أروع المعابد الأوروبيّة الغربيّة، وكنائس موسكو وسان بيترسبورغ، التي تحوّلت في معظمها إلى متاحف… في غياب المؤمنين.

عندما اندلع الحريق في كنيسة نوتردام الباريسيّة، في نيسان الماضي، تضامن العالم مع فرنسا، وفاقت التبرّعات لإعادة بنائها المليار دولار في خلال أسابيع، وما كان ذلك بدوافع دينيّة، وإنّما لأنّ نوتردام معلم حضاريّ له رمزيّته، ويعتبر ملكًا للإنسانيّة والتراث العالميّ، وليس مجرّد ملكيّة فرنسيّة أو مسيحيّة.

هكذا قرأت فِعلة أردوغان. أمّا دوافعه وعواقب قراره على المستوى الإنسانيّ والثقافيّ والسياسيّ و… فحديثها يطول ويطول. ولعلّ القول بأنّه يعطي حجّة لنتانياهو لتهويد الأماكن المقدّسة، ككنيسة المهد والمسجد الأقصى، كافٍ لإعطاء فكرة عن خطورة تلاعب المهووسين والمغرورين والمتعصّبين الشعبويّين بميراث الإنسانيّة.

فهل أُلام على اختيار العنوان؟


MISS 3