د. نبيل خليفة

من حلّ الدولتين... إلى مأزق الدولة الأقلّوية في الشرق الأوسط

22 شباط 2024

02 : 00

في سياق مقاربتها للصراع الدامي والمدمّر في فلسطين بين اسرائيل والفلسطينيين، سارعت الدول المؤثرة ولا سيما الولايات المتحدة وأوروبا إلى اعتماد خيار يؤدي إلى حلّ حذري للقضية الفلسطينيّة ألا وهو، في رأيها، اعتماد حلّ الدولتين في فلسطين: دولة اسرائيل ودولة فلسطين على أن تشكل من الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقيّة، نظراً لما لهذا الأمر من معنى ديني وسياسي. وشرعت كافة المؤسسات الفكرية والسياسية في أميركا والدول الأوروبية في رسم الاطار الدولاتي لهذا الخيار وعلى مختلف الأصعدة: الجغرافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والديبلوماسيّة باعتباره الحلّ الذي يرضي الجانبين ويحل المسألة المعقدة والمطروحة منذ ما يزيد على ثلثي قرن من الزمن.

أعاد هذا الأمر إلى الذاكرة مقررات مؤتمر القمة العربية الرابع عشر في بيروت 27 و28 آذار مارس 2002، ومنه انطلقت مبادرة السلام العربية على لسان الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية وفيها دعوة إلى انسحاب اسرائيل الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ 1967، ومبدأ الأرض مقابل السلام. وانطلاقاً من اقتناع الدول العربية بأن الحلّ العسكري للنزاع لم يحقق الأمن والسلام لدى الطرفين:

1. يطلب المجلس من اسرائيل إعادة النظر في سياساتها وأن تجنح للسلم معلنة ان السلام العادل هو خيارها الاستراتيجي.

2. كما يطالب المجلس اسرائيل بما يلي:

• الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من حزيران 1967 والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان.

• التوصل إلى حلّ عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.

• قبول قيام دولة فلسطينيّة مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينيّة المحتلة منذ الرابع من يونيو 1967 في الضفة الغربيّة وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقيّة.

3. عندها تعتبر الدول العربيّة النزاع العربي الاسرائيلي منتهياً وتدخل في اتفاقية سلام بينها وبين اسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة.

كما تقوم بانشاء علاقات طبيعيّة مع اسرائيل في اطار هذا السلام الشامل.

4. وضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني في البلدان العربية المضيفة.

5. يدعو المجلس حكومة اسرائيل والاسرائيليين جميعاً إلى قبول هذه المبادرة حماية لفرص السلام وحقناً للدماء، بما يمكن الدول العربيّة واسرائيل من العيش بسلام جنباً إلى جنب ويوفر للأجيال القادمة مستقبلاً آمناً يسوده الرخاء والاستقرار.

6. يدعو المجلس المجتمع الدولي بكل دوله ومنظماته إلى دعم هذه المبادرة.

إعلان بيروت

ولقد تبنى مجلس جامعة الدول العربيّة كافة مندرجات مبادرة السلام العربيّة التي اقترحتها المملكة العربية السعوديّة حول القضية الفلسطينيّة وصدرت الموافقة تحت عنوان: اعلان بيروت.

أولاً: يعتبر هذ النص، إن من حيث الاقتراح أم من حيث الموافقة عليه باجماع الدول العربية نصاً أساسياً في تاريخ التعاطي العربي مع القضيّة الفلسطينيّة بحيث كان المدماك الأول منذ نصف قرن (1948-2002) للتصوّر العربي لحلّ القضية الفلسطينيّة. فلقد حدّدت مبادرة السلام العربيّة المبادئ والإلتزامات التي يجب أن يأخذ بها ويتبناها الطرفان للوصول إلى حل سلمي للقضية الفلسطينيّة: ما هو للعرب وما هو لليهود في فلسطين التاريخيّة.

ثانياً: بما أنّ الدولة، أو الأمة، هي خلاصة عنصرين أساسيين أي:

• العنصر المادي الذي هو الأرض حتى تقوم عليها الدولة أو الأمة.

• والعنصر النفسي الذي هو الشعب وما يعبّر عن فكر هذا الشعب وفلسفته وحضارته وقيمه، فقد شرعت المبادرة بتقسيم الجغرافيا الفلسطينيّة بين العرب واليهود. وحيث أنّ الشرق الأدنى هو مهد الديانات وبالتالي مهد الأقليات الدينيّة والعرقيّة بين اليهوديّة والمسيحيّة والاسلام، لذلك ضعفت وحدة العنصر النفسي (الديني) لدى شعوب هذه المنطقة لتنوّع واختلاف أديانها ومذاهبها. لذلك أصبح العنصر المادي، أي الأرض، هو العنصر الأساس القادر على توحيد الشعوب، فإذا انهار عنصر الأرض انهار بناء الدولة معه. وذلك أنّ الأرض هي المعقل الأساس والأخير لبناء دولة متماسكة في هذا الجزء من العالم والذي تسكنه تسعة وخمسون أقليّة وهو أضخم حشد اقلوي عرفته الكرة الأرضيّة. يضاف اليه عامل مهم وحاسم هو تحديد علاقة الانسان بالأرض التي يقيم عليها وهي علاقة تحدد إلى مدى بعيد ارتباط هذا الانسان النفسي والمعنوي والروحي بأرض معيّنة، فإذا حوت هذه الأرض أماكن دينيّة أصبحت بالنسبة لسكانها أكثر من أرض. إنها رمز، وهذا يعيدنا إلى موضوع الفلسطينيين واليهود اذ يعيدنا إلى أورشليم أرض القداسة لدى اليهود ولدى المسيحيين وأرض المسجد الأقصى لدى المسلمين.

ثالثاً: في حين كانت حياة البداوة بعيدة عن عاطفة الأرض بحيث أنّ الحضارة العربية انتقلت من حياة البداوة إلى حياة المدنية من دون المرور بحياة الريف كما يقول المؤرخ جاك ولرس، كانت الديانة المسيحيّة مجبولة بالأرض والريف وهذا ما عكسته الأناجيل. فالمسيح ولد بين الرعاة والحملان وعلى القش. كما أنّ المسيح يستوحي صور الريف: فهو الزرع وأبوه الغارس، ومثل الكرمة وحبوب القمح، ما يجعل الحضارة المسيحيّة لصيقة بالأرض.

رابعاً: مع قيام الدولة العربيّة الاسلاميّة، لم يبق أمام الأقليات من أهل الذمّة سوى خيارين للحياة والبقاء:

• إما الرحيل باتجاه الريف والمناطق الجبلية الصعبة حيث يمكنها أن تدافع عن نفسها بسلاح الطبيعة وسلاحها وهذا هو وضع الموارنة في جبل لبنان والدروز في جبل الدروز، والعلويين في جبال العلويين.

• وإما الرحيل باتجاه المدن والتخلي عن فكرة المواجهة مع السلطة والعمل في النشاطات الاقتصاديّة والفكريّة وهذا كان وضع اليهود والروم الارثوذكس والكاثوليك ووضع الأرمن.

إنّ وجه الخطورة في هذا الأمر هو أنّ الصراع بين الأكثريّة العربية السنيّة وبقية الأقليات، لم تعد فقط صراعاً على ميراث السماء وفق ديانة كل جهة، بل أضيف اليها صراع على خيرات الأرض. وبين هذين الصراعين الحياتيين برز الشعور الأقلوي لدى أهل الذمّة من مختلف الأقليات وهو شعور التضامن لمواجهة الحياة والمصير بأساليب مختلفة:

إما بالفكر وإما بالعمل، وإما بالتفوّق وإما بالرحيل إلى أماكن أكثر هدوءاً وأماناً. هو ما عملت به مختلف الأقليات وشكّل الرافعة التاريخيّة لكل واحدة منها في معركة الوجود. والصراع الجاري الآن في فلسطين وحولها ليس سوى صورة مصغّرة عن هذا الصراع التاريخي بين الكسور البشرية في منطقة وصفها علماء الفكر الاستراتيجي بأنها «مخزن البارود الذي يفجّر العالم» (La poudrière du Monde).

MISS 3