جاد حداد

مهنة جديدة ومفاجئة للروبوتات!

16 تموز 2020

02 : 00

حرّك جاستن سانتاماريا أصابعه على جهاز "آي باد"، فظهر ذلك الكائن فجأةً. إنها "زورا" التي نهضت عن الأرض ووقفت على قدمَيها وراحت تلوي أطرافها البلاستيكية البيضاء، مفصلاً تلو الآخر. كانت هذه الآلة بحجم طفل صغير فوقفت هناك بعينيها الدائريّتَين الظريفتَين، فيما جلست خمس سيدات متقدمات في السن على شكل نصف دائرة أمامها وبدت عليهنّ معالم الترقب.

"زورا" ليست سوى روبوت! منذ شباط 2019، تستعملها دار الرعاية في الجادة 15 من مدينة باريس للاعتناء بكبار السن هناك. تبدأ "زورا" صفّها دوماً بتمرين جسدي سلس، فتحرك رأسها نحو الأعلى ثم نحو الأسفل باتجاه الصدر، ثم من جنب إلى آخر، على وقع موسيقى هادئة. تطبّق طالباتها الخمس كل حركة مثلها.

يقضي التمرين اللاحق بتشغيل أذرع المشاركين. جميع خصائص "زورا"، بما في ذلك كلامها، مُبرمَجة مسبقاً من جانب جاستن على حاسوبه اللوحي.

لكنّ جاستن لا يكتفي بالتحكم بالروبوت، بل إنه مدرّب لياقة بدنية متخصص بكبار السن والمصابين بإعاقات. فيما تعرض "زورا" الحركات أمام الطلاب، يستطيع جاستن أن يقدم لكل واحد منهم تعليمات فردية.

بنظر سلسلة دور الرعاية الخاصة، Maisons de Famille، التي بدأت تستعمل "زورا" في مراكزها الستة عشر في أنحاء فرنسا، هذا الروبوت ليس ممتعاً فحسب بل إنه يختصر المستقبل!





تنتشر تكنولوجيا الروبوتات في كل مكان من حولنا. أصبحنا معتادين على الأجهزة المستقلة التي تنظف منازلنا. حتى أننا شاهدنا روبوتات وهي تساعد الجراحين أو تُطَهّر غرف العمليات بعد الجراحة. لكن تُستعمَل الروبوتات التي تبدو أشبه بنسخ بشرية مصغّرة للاعتناء بالناس وتحسين نوعية حياتهم أيضاً.

تكشف الدراسات أن "زورا" وروبوتات اجتماعية أخرى تعطي قيمة إضافية إلى أساليب الرعاية التقليدية. لكن لا تزال استعمالاتها في بدايتها، لذا ترتكز معظم الأدلة على تجارب شخصية. في دار رعاية Maisons de Famille، يرفض كبار السن الكلام، لكنهم بدأوا يستعملون الإيماءات للتواصل مع الآخرين لأنهم يقلّدون "زورا".

يقول بوريس بريفوست، رئيس قسم التسويق والابتكار في Maisons de Famille: "في أحد المراكز في جنوب فرنسا، كان مريض يرفض أن يلمسه أحد لتغيير ملابسه. لكنه تقبّل العلاج أخيراً بفضل "زورا" التي نجحت في إلهائه. كذلك، نجح أشخاص مصابون بالخرف في حصر تركيزهم لفترة مضاعفة خلال الجلسات التي تستعمل "زورا"".

تصمّم شركة الروبوتات البلجيكية Zorabots برمجيات خاصة بأنواع مختلفة من الروبوتات بشرية الشكل، وقد شغّلت "زورا" في 400 مركز للرعاية الصحية تقريباً في بلدان مثل أستراليا، وبلجيكا، وفرنسا، وهولندا، وألمانيا، وسويسرا، وإيطاليا، والولايات المتحدة، وبعض بلدان آسيا.

تذكر الشركة أن رجلاً متقدماً في السن ومصاباً بالخرف توقف عن الكلام لكنه استرجع رغبته في إقامة المحادثات بفضل الروبوت الذي يعتني به. كذلك، نسي مريض آخر النوتات في قطعة موسيقية لكنه عاد وتذكّرها كلها أثناء تفاعله مع "زورا".

من الناحية السلبية، يشتكي كبار السن في مركز Villa Lecourbe الفرنسي من صوت "زورا" الغريب والخافت، وهو جانب سلبي لدى المصابين بضعف في السمع. يظن جاستن سانتاماريا أن هذه التكنولوجيا تحتاج إلى التعديلات. لن تكون برمجتها صعبة برأيه، لكنها تتطلب بعض الوقت.

شعر الموظفون وبعض أقارب كبار السن بالقلق في البداية من احتمال أن تصبح الروبوتات بديلة عن الممرضين. لكن تنفي إليزابيث بوشارا، مديرة Villa Lecourbe، هذه الفكرة بشكلٍ قاطع: "الروبوت يرافق الناس وليس بديلاً عنهم. "زورا" شخصية صغيرة وقد بدأ كبار السن في مركزنا يعتادون عليها، لكنها مُبرمجة على يد احترافي. هي ليست شيئاً من دونه".

في بريطانيا، نجح مجلس "ساوث أند أون سي" في "إيسيكس" في دمج الروبوتات مع فريق الرعاية الاجتماعية. يحمل الروبوت هناك اسم "بيبير" وهو بحجم طفل بشري ويُستعمَل لمساعدة كبار السن المصابين بالخرف والأولاد المصابيــــن باضطراب طيف التوحد.

تعترف ماكسين ناتكينز، مديـــــــرة النشاطات الاجتماعية في المجلس، بدهشتها من التحول الحاصل في هاتين المجموعتين. كانت حاضرة في جلسة حديثة في دار رعاية للمصابين بالخرف حين شجّع "بيبير" المرضى على استرجاع ذكرياتهم عبر طرح الأسئلة عليهم.

رفضت سيدة في التسعينات من عمرها المشاركة في البداية. لكن حين تواصلت مع "بيبير" مباشرةً، نهضت فجأةً وبدأت ترقص وتتكلم وتمسك بيدَي الروبوت، حتى أنها داعبت وجهه.

لكن لاحظت ناتكينز أكبر المنافع لدى الأولاد المصابين بالتوحد. يقصد "بيبير" مدرستَين للأطفال ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة ويدير ورش عمل للكتابة الإبداعية. سجّل هذا الروبوت معلومات عن كل طفل، لذا يشعر الأولاد بالحماسة لأن "بيبير" يعرفهم.

يوافق الطبيب النفسي العيادي دانيال ديفيد على ملاحظات ناتكنز، فيقول: "في حالات التوحد، يكون المرضى منفتحين على التفاعل مع كائنات وتقنيات اصطناعية أكثر من البشر".

يظن ديفيد أن مساهمة الروبوتات في معالجة الاضطرابات النفسية قابلة للتطوير. بدل مقاربة "الساحر أوز" المستعملة مع "زورا" و"بيبير"، حيث يضطر المشغّلون لبرمجة تحركات الروبوت وردود أفعاله، يعمل ديفيد على مشروع من تمويل المفوضية الأوروبية لتطوير روبوت مستقل وخاضع للمراقبة يستهدف الأولاد المصابين بالتوحد.

يستعمل فريقه روبوتَين. الأول روبوت ناعم يشبه الفيل واسمه "بروبو"، وهو يتمحور حول مهارات التواصل مثل طلب الخدمات وتقديم الشكر. الروبوت الثاني اسمه "ناو"، وهو يشبه "زورا" من الخارج لكن يُحرّكه برنامج مختلف. يُستعمَل "ناو" لأداء أدوار متنوعة كي يتعلم الأولاد التقليد وانتظار دورهم ويطوروا مهارات اجتماعية أخرى.

يهدف هذا المشروع إلى تطوير الجيل المقبل من العلاجات بالروبوتات عبر استخدام الذكاء الاصطناعي. ستتمكن الروبوتات من التعلّم استناداً إلى تجاربها لتقييم السلوكيات واختيار الاستجابة العلاجية المناسبة. حتى أنها قد تصبح أداة تشخيصية عبر جمع البيانات خلال الجلسات مع الأولاد. يتمنى فريق العمل في هذا المشروع أن تُنشَر نتائجه في أقرب فرصة.





ديفيد مقتنع بأن الروبوتات لها دور في تحديد مسار العلاجات النفسية المستقبلية التي تستهدف الأولاد المصابين بالتوحد أو كبار السن والراشدين الآخرين المحتاجين إلى دعم عاطفي ومعرفي في منازلهم عند غياب المعالجين النفسيين: "التطور التكنولوجي حتمي ولا أحد يستطيع كبح تكنولوجيا الروبوتات. لهذا السبب، يجب أن يستبق الأطباء النفسيون الوضع ويتولوا تصميم هذا المستقبل بأنفسهم".

تتسارع الابتكارات في هذا المجال. في "تولوز"، تُطوّر الشركة الفرنسية الناشئة New Health Community روبوتاً متخصصاً بالرعاية الطبية اسمه "تشارلي" لاستعماله في المستشفيات. هو لا يرافق المرضى فحسب، بل يستطيع الترفيه عنهم عبر مشاركتهم الألعاب أو يقدم لهم المعلومات عبر شاشة عاملة باللمس. حتى أن المرضى يستطيعون التواصل مع الأطباء عبر خاصية مؤتمرات الفيديو، وتُخزَّن البيانات الطبية بكل أمان.

صانع "تشارلي" هو طبيب الأسرة نيكولاس هومهر، وقد خطرت له هذه الفكرة بعدما أصيب ابنه الصغير بمرض حاد واضطر لملازمة المستشفى. استنتج حينها أن الأولاد يستفيدون في هذه الظروف من رفقة الروبوتات.

على صعيد آخر، يساعد روبوت AV1 من إنتاج الشركة النروجية No Isolation الأولاد المصابين بأمراض مزمنة. يفوّت هؤلاء المدرسة ويشعرون بالعزلة، لكن يستطيع هذا الروبوت الصغير أن يقصد المدرسة بدلاً عنهم ويسمح للطالب بالمشاركة في الدروس عن بُعد بفضل تقنية البث المباشر.

من المنتظر أن تطرح شركة التكنولوجيا العملاقة "سامسونغ" روبوت "بوت كير" لمساعدة المرضى والمصابين بإعاقات وكبار السن ومراقبتهم في منازلهم. يجيد هذا الروبوت التحرك والتكلم، وهو مزوّد بشاشة عليها وجه وعينان رقميتان ظريفتان. كذلك، يستطيع قياس ضغط الدم ومعدل ضربات القلب وإيقاع التنفس، ويُذكّر المستخدمين بأخذ أدويتهم ويخبرهم بجدول يومياتهم ويعزف لهم الموسيقى، حتى أنه يُبلِغ أفراد العائلة الآخرين بأي حالة طارئة، على غرار حوادث السقوط.

قد يزدهر هذا النوع المستقل من مقدّمي الرعاية خلال السنوات المقبلة. وفق تقديرات الأمم المتحدة، من المتوقع أن يصل عدد الناس في عمر الثمانين وما فوق إلى 434 مليوناً بحلول العام 2050، وهو عدد أعلى من أرقام العام 2015 بثلاثة أضعاف (125 مليوناً). لكن يصرّ مؤسسو شركة Zorabots على أن تكنولوجيا الروبوتات لا تهدف في الأساس إلى السيطرة على كل شيء بل تقدّم المساعدة بكل بساطة. يوضح تومي ديبليك، أحد مؤسّسي الشركة إلى جانب فابريس غوفين: "بدأت الروبوتات الاجتماعية تُحدِث فرقاً كبيراً عبر تشجيع الناس على الحفاظ على رشاقتهم والمشاركة في تقديم الرعاية، حتى أنها أصبحت أداة مستعملة في العلاج الفيزيائي كونها تكتشف طرقاً جديدة لرصد الألم أو التواصل مع المصابين بالتوحد مثلاً. لكنّ الروبوتات لن تستبدل خبرة البشر ومشاعرهم الدافئة يوماً. وحتى لو نجح الذكاء الاصطناعي غداً في تقديم الرعاية أو تشخيص الأمراض، ستبقى الروبوتات دوماً مُكمّلة للبشر وستقدّم دعماً إضافياً للمرضى".

بالعودة إلى مركز Villa Lecourbe في باريس، تعبّر إليزابيث بوشارا عن سرورها من أداء "زورا"، ذلك "الروبوت الصغير السحري"، فقد نجح في تحسين حياة كبار السن بشكلٍ ملحوظ. لذا تعتبر استعماله أفضل قرار اتخذته حتى الآن!


MISS 3