سامي الهاشم

الحقيقة المرّة

28 شباط 2024

17 : 51

يحار الإنسان اللبناني في أمره، ويتساءل ماذا يفعل في بلدٍ أُقفِلت فيه أبواب الرزق وماتت أحلام بنيه، وكيف يعيش في عالم الطرشان، حيث لا أحد يسمع أحدًا، وإذا سمع يعارض فورًا، الكلّ ضدّ الكلّ، الكلّ "فاتح على حسابه"، الكلّ يعتقد أنّه على صواب، أمّا الحقيقة فكلّنا على ضلال وغباء وتنكّر للقيم الوطنيّة، والمبادئ الرئيسة التي تُبنى عليها الأوطان!



لقد أفسدنا كلّ شيء، من رأس الهرم إلى أسفله.

سنحاول باختصار كلّي أن ندرس أسباب الوضع الرديء الذي وصلنا إليه، الوضع المقيت الذي أدّى إلى اليأس.



• الدستور اللبناني

دستور مطّاط، تفسِّره كلُّ جهة على هواها، إن في طريقة انتخاب رئيس الجمهوريّة، وإن في كيفيّة تشكيل الحكومة وإن في مواد أخرى من الدستور...لذلك وصلنا إلى فراغ سدّة رئاسة الجمهوريّة، وإلى حكومة تصريف الأعمال، وقد بلغت مدة التعطيل في العشرين سنة الماضية ما يُقارب العشر سنوات!



الدستور وضِع سنة 1926، وكان الذين وضعوه آنذاك:



- ذوي نيّة حسنة وأخلاق عالية، يعتبرون مصلحة الوطن فوق وقبل كلّ المصالح، ولا يفكّرون بتعطيل النصاب في المجلس النيابي أو في الحكومة، قصدًا وعمدًا، ولغاية في نفس يعقوب،

- أو كانوا طيّبي القلوب، لا أريد أن أقول بسطاء، لا يعرفون شيئًا من ألاعيب السياسة الخبيثة.



• رئاسة الجمهوريّة

تنفيذًا للمؤامرة التي تستهدف لبنان، ونظرًا إلى قُصر نظر اللبنانيين السياسي، وفي غفلةٍ من الزمن تمّ اغتيال رئاسة الجمهوريّة لأوّل مرّة، يوم استشهد الرئيس الشيخ بشير الجميّل في 14 ايلول 1982، ثمّ اغتيلت ثانية يوم عُدِّل الدستور في الطائف ونُزعت صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، مثل حلّ المجلس النيابي أو إقالة الحكومة أو أحد وزرائها...فأصبح الرئيس بدون صلاحيّات هامّة، ما أدّى إلى عدم تمكّنه من الحكم، هذه كانت نظريّة الجنرال ديغول عندما اعتزل السياسة في العام 1945، ولم يعد إلى الرئاسة سنة 1958 إلاّ بعد أن عُدِّل الدستور الفرنسي وأُعطي رئيس الجمهوريّة صلاحيّات واسعة تُمكّنه من الحكم وقد نجحت نظريّته بالفعل.



هذا من جهة، ومن جهة ثانية بدأت فكرة تعطيل الجلسات الإنتخابيّة الجهنميّة، في الأعوام 2007 و 2014 و2022 فحصل الفراغ والفوضى والضياع!

ليتنا نعلم أنَّ الجسم لا يعيش ولا يستقيم بدون رأس!!!



حكومة تصريف الأعمال

حكومة لا تجتمع إلاّ نادرًا، المقاطعون يُعطّلون جلساتها، الحاضرون لا ينتجون شيئًا نافعًا، يغلب عليها طابع العجز، يظهر ذلك واضحًا في وضع الموازنة التي، وبعد التعديلات التي أُجريت عليها، ستقضي على البلاد والعباد، حكومة يُصرِّح رئيسها، وفي أخطر الأوقات، أنَّ قرار الحرب والسلم ليس بيده، وأنّ وضعنا مرتبطٌ بحرب غزّة...

بدون رئاسة جمهوريّة، وبدون حكومة مكتملة الصلاحيّات وفاعلة، أصبح البلد مشلولاً وفي حالة الخطر المميت.



• المجلس النيابي

أدعو القارئ للعودة إلى جلسات الموازنة التي عُقِدت في أواخر الشهر الماضي، أي في آخر أيّام المهلة الدستوريّة، ليرى المهزلة بأمِّ عينه، إنّها جلسات الهرج والمرج، جلسات الصراخ والفوضى والتحدّيات...، مستوى لا يليق بممثّلي الأمّة، خطابات لا قيمة لها، ولا علاقة لها بالموازنة، لا أحد يدرس بنودها التي يجب أن تُدرسَ بندًا بندًا قبل إقرارها، وأنا أُراهن أنّ أكثريّة النوّاب لا يعرفون شيئًا عن الموازنة، لذلك نُناشد القلّة من النواب المحترمين أن يستقيلوا فورًا، حفاظًا على كرامتهم وسمعتهم وآدميتهم، أمّا الباقون فهم عبء على السلطة التشريعيّة وعلى الناس.



• السلطة القضائيّة

السياسيون وأصحاب المصالح الخاصّة، أفسدوا أقدس سلطة في الدولة، وأعابوا ميزان العدل الذي هو أساس الملك، والركن الأعظم الذي تُبنى عليه الدول الراقية.

منذ عهد حمورابي وما قبله، إلى عهد بزرجمهر الذي وضع أسس الملك الخمسة: سلطان قاهر (قوي)، قاضٍ عدل، نهر جارٍ، سوق قائمة، طبيب عالم.

أمّا بالنسبة إلى الذين أفسدوا السلطة القضائيّة فهم إمّا مغفّلون وإمّا يتعمّدون الهدم والخراب وإمّا متآمرون.



• الإدارة

كثرة موظفين ومنتفعين بدون جدوى، وبتقديرنا أنّ ربع عددهم كافٍ لإنجاز معاملات المواطنين، لا سيّما ونحن في زمن المكننة والكومبيوتر والإنترنت...

نراهم اليوم مضربين في كلّ القطاعات والمرافق.

كلّهم يدّعون الغبن والظلم، كلُّهم يطالبون بزيادة معاشاتهم التي هي سبب من أسباب الحالة الإقتصادية الخانقة، ورُبّ "غيور" يردّ علينا: معهم حقّ، معاشاتهم لا تكفيهم، ونسي أنّ زيادة المعاشات أضرَّت بهم، ولا يُفكّر بغالبيّة الناس المحرومين من أيّ دخل!



في أحسن الأوقات كانوا لا يُنجزون معاملة لمواطن إلاّ بعد أن يُدفِّعوه خُوَّة أو رشوة أو برطيلاً...

موازنة ال2024، لا تكفي وارداتها معاشات عشرات الألوف في القطاع العام...أمّا المشاريع المنتجة، الحيويّة التي تخدم مصلحة المواطنين فلا وجود لها!

"عذرًا من بعض الموظفين الشرفاء"



ملاحظة: أنا لست ضدّ الموظّف, ولكنّني مع خطّة إقتصاديّة شاملة ترعى مصلحة الدولة وشؤون المواطنين جميعًا وتجعل المعاش كافيًا لحياة كريمة وليس رقمًا ساقطًا.



• ودائع الناس وقوّة العملة الشرائيّة

هل قرأنا أو سمعنا أنّ دولة في العالم إتّفقت مع المصارف وعلى رأسها المصرف المركزي على نهب أموال الناس وجنى عمرهم؟

لم يبقَ لنا مال في المصارف، فالقرش الأبيض الذي جمّعناه ليومنا الأسود تبخّر وطار، والتعاميم المصرفيّة المتعدّدة ما هي إلاّ لإلهاء الناس وتخديرهم.



قيمة الليرة اللبنانية أصبحت على الحضيض، وهنا نسأل حاكميّة مصرف لبنان عندما أصدرت التريليونات من فئة المئة ألف ليرة في الأعوام 2017-2020-2022-2023، هل كانت مغطّاة؟ وعلى أيّ أساس أصدرتها، وأين أصبحت قيمتها الشرائيّة؟



• موارد الرزق

بات المواطن مهدّدًا بلقمة عيشه، المشاريع مجمّدة، التعهدات معطّلة، أعمال البناء معدومة، المحلاّت التجاريّة مقفلة، لا شيء يسير بشكل طبيعيّ، ولا أحد يعرف كيف سيكون غدُه!



• الحرب الدائرة في المنطقة وفي الجنوب اللبناني


أصبحت الحرب على الأبواب، لا بل دخلت إلى الأعماق.

مجلس الأمن، هيئة الأمم المتحدة، المجتمع الدولي، المنظمات الدوليّة، بحالة عجز تام أو بحالة لا مبالاة، لا فرق عندهم إن قُتل فلان أو هُجِّر علتان،أو تهدّمت مدينة أو حيّ أو بيت، أو دُمِّر لبنان، لا سمح الّله.

والأخطر، إنّ بعضنا في الدّاخل يتصرّف على هواه ولو أدّى قراره إلى الدمار الشامل.



• التجارة الباقية

أكل التجار الأخضر واليابس، أسعار السلع أصبحت خياليّة، من أصغر سلعة إلى أكبرها، من أسعار الأدوية في الصيدليّات إلى أكلاف الإستشفاء المخيفة...

فويلٌ للفقير إذا أُصيب بوعكة صحيّة أو إذا كسر يده، فمن أين سيأتي بالملايين التي يتوجّب عليه دفعها قبل دخوله إلى المستشفى؟



أمّا التجارة الموسّعة في الكماليّات والأشياء الثمينة، وشراء وبيع الأراضي والشقق السكنيّة فقد انعدمت وهناك العديد من التجار الذين أقفلوا أبواب رزقهم!



• الرسوم والضرائب

تجاوزت حدود الممكن والمعقول، من فواتير الكهرباء(دولة ومولّد) إلى الهواتف الأرضيّة والمنقولة، إلى المياه، إلى الرسوم الماليّة والبلديّة،...

هل يُعقل أن تُصبح كلفة إخراج القيد 1،000،000 ل.ل. ما عدا الإنتظار وما يلحق المعاملة من مصروف إضافي؟...(نقلاًعن كلام النائب ابراهيم كنعان)

هل يُعقل أن تبلغ قيمة ضبط مخالفة بسيطة في البلديّة 5،100،000 ل.ل.؟


هذه نماذج صغيرة عن الرسوم والضرائب، ولا لزوم للتكملة فالأمر موجع...



• الأمن الضائع

أمننا مفقود، سلامتنا وسلامة ممتلكاتنا بخطر، قطّاع الطرق واللصوص يملأون الأرض، يسطون ويسرقون ويُخرِّبون كلّ شيء حتّى الكنائس والمدارس، وإذا أردت أن تقدّم دعوى ضدّ مجهول، أو أن تعطي علمًا وخبرًا على الأقلّ، فلا تجد أحدًا يردّ عليك،

فبئس المصير وبئس العيش في هكذا بلد...



• الدولار ومفاعيله

ربطنا طائعين ومكرهين عملتنا الوطنيّة بالدولار، تاجرنا به بيعًا و شراءً، سعّرنا سلعنا به، حوّلنا أموالنا إليه، وكأنّنا ولاية أمريكية، إحتقرنا عملتنا التي كانت من أقوى العملات يومَ عمَّرنا لبنان من أقصاه إلى أقصاه في مدّة لا تتجاوز الأربعين سنة!

يقولون لك: نظامنا الإقتصادي حرّ، فأين نحن من الحريّة والنظام؟!



• مشكلة الأغراب في لبنان

مشكلة من أخطر المشكلات، لا يمكن لبلدٍ مساحته 10452 كلم مربع، موارده قليلة، عدد سكّانه بالنسبة إلى مساحته مرتفع، أمنه مفقود، أن يتحمّل أغراب وأجانب يفوق عددهم عدد سكّانه الأصليين.

يبقى الكثير لنقوله ولكننا نكتفي بهذه الأسباب التي أدّت إلى الإنهيار الكامل وإلى قول الحقيقة ولو كانت مُرّة كالعلقم.



النتائج

1- بتنا مهدّدين بحياتنا ومصيرنا ووجودنا والكيان، ولا نرى المنقذ لا من قريب ولا من بعيد، لا من الداخل ولا من الخارج، فسدّ باب الأمل في وجهنا.

2- معاناتنا لا توصف من وجود الأغراب في بلدنا، ، فهذه معضلة من أقوى وأخطر المعضلات، ويبدو أنّ الحلّ مفقود.



3- لا يوجد قطاع واحد في لبنان "واقف على رجليه" ويسير في الطريق الصحيح.

4- المسؤولون السياسيون والماليون هم الذين يتحملون المسؤولية كاملة،



هم الذين تحكّموا في مفاصل الدولة كلّها وفرضوا أنفسهم وأحزابهم على الجميع،

هم يدّ عون جازمين بأنّهم يسندون السماء بأكفّهم ولولاهم لما كنّا موجودين،



وهم الذين أوصلونا إلى قعر المستنقع وإلى الإحباط والبؤس واليأس.

هذا جزء من الحقيقة المرّة ولم يبقَ لنا سوى الصبر والصلاة وانتظار الفرج من اللّه.





MISS 3