18 تموز 2021 لم يكن يوماً عادياً في تاريخ نقابة المهندسين في بيروت. يومذاك، تمكّنت «النقابة تنتفض»، في توحُّد غير مسبوق بين أطياف مجموعات «الانتفاضة» في وجه قوى السلطة، من كسْر هيمنة الأحزاب على النقابة. عدد الأصوات الذي حصل عليه عارف ياسين (الذي انتُخب على أثره نقيباً خلفاً للنقيب جاد تابت) كان خيالياً: 5,798 صوتاً ، مقابل 1,528 صوتاً فقط لمرشّح تحالف تيار «المستقبل» وحركة «أمل»، باسم العويني، و1,289 صوتاً لمرشّح باقي قوى السلطة، عبدو سكرية.
غير أن الآمال التي عُقدت على النقيب المنتخَب ومجلس النقابة الخارجين، من حيث المبدأ، من رحم «17 تشرين»، ما لبثت أن اصطدمت بانشقاقات وتخبّط داخلي كما بسوء إدارة وتلكّؤ في معالجة الكثير من الملفات المفصلية. تزامن ذلك مع الأزمة الاقتصادية المثقلة بانهيار جوهره ثنائية الهدر والفساد «السلطويّين». وما زاد في الطين بلّة مجموعة عوامل: تجاهُل النقيب لوضع أي خطط إنقاذية موضع التنفيذ؛ عجزه عن تحييد النقابة عن النزاعات السياسية؛ غياب الشفافية في التعاطي؛ واستحالة الوصول إلى المعلومات وسط صمت ملحوظ لأعضاء المجلس.
كل ذلك انسحب على انتخابات المقاعد الخمسة (مقعد لرئاسة فرع المعماريّين، مقعد لرئاسة الفرع السادس وثلاثة مقاعد عن الهيئة العامة) التي شهدتها النقابة في نيسان الماضي. فقد عاد تحالف الأحزاب ليحقّق فوزاً بأربعة مقاعد مقابل مقعد واحد لتحالف «مصمّمون»، أي «النقابة تنتفض» سابقاً. وبرز واضحاً تراجُع تمثيل الأخير وانعدام قدرته على الحشد والتعبئة، على عكس ما أنجزه في انتخابات 2021. بإزاء ما تقدّم، كيف تبدو المشهدية الأوّلية لانتخاب نقيب جديد وثلاثة أعضاء الشهر المقبل؟
خيبة أمل
البداية مع ائتلاف «النقابة تنتفض – مصمّمون»، وتحديداً مقرّر هيئة مكتب المندوبين، المهندس عبد النور صليبا. التقيناه للوقوف على رأيه حيال الأجواء التحضيرية. «التحضيرات أكثر من جيّدة لكن لا يجب أن تكون انتخابات 2021 هي المقياس. كانت تلك انتخابات استثنائية بنتائجها كما بالظروف التي أحاطت بها. من «17 تشرين» إلى انفجار المرفأ فالأزمة الاقتصادية، ناهيك باستياء الناس من ممارسات الأحزاب، جميعها عوامل ساهمت في إيصال «النقابة تنتفض» بعد مسار أكثر من ثلاثين سنة من الخيبات والصراعات». صليبا اعتبر أن على النقابات إكمال الثورة التي بدأها الشعب في الشارع، مشيراً إلى أن «النقابة تنتفض» تمكّنت من حصد نجاح غير مسبوق نتيجة حسن التنظيم وتشكيل لجان متعدّدة كان أبرزها لجنة صياغة برنامج شامل وطويل الأمد، إضافة إلى النقاشات المستفيضة التي فعّلت دور كافة المندوبين وجعلتهم معنيّين بكل أمور النقابة كما بصناديقها وفروعها.
ويتابع: «في العام 2021 كانت معركتنا سياسية، أما اليوم فهي نقابية بامتياز. من حسنات تجربة «النقابة تنتفض» أننا تعرّفنا أكثر على الأداء النقابي لزملائنا المهندسين المندوبين المنتمين إلى كافة الأحزاب، كما تأكّدوا بدورهم أننا لم ندخل النقابة من باب المعارضة الشعبوية، إنما لتحقيق تغيير جذري بالتعاون مع الجميع. فهناك الكثير من المندوبين الذين تبنّوا طروحاتنا وعرضوها على أحزابهم ووقفوا إلى جانبنا». الطروحات بمعظمها تهدف إلى محاكاة الواقع الاجتماعي للمهندس، إذ إن الهدف هو تبديل فكرة المعارضة التقليدية من خلال تغيير السلوك السائد داخل النقابة، وتكريس دور وطني لها إلى جانب الدور المهني للمهندسين، ما يجعل خوض الانتخابات المقبلة مختلفاً عن سابقتها.
لكن ما تفسير الانكفاء الذي بدا جليّاً بعد النجاح «غير المسبوق» للمنتفضين؟ يجيب صليبا: «كنّا نتوقّع أن يتحوّل النقيب ياسين من نقيب للمهندسين إلى قائد مطلبيّ متزعّماً حركة نقابية تضمّ كافة النقابات. وكنّا مستعدّين للانضواء تحت تلك الراية. لكن هذا لم يحصل للأسف. لم نشكّ يوماً بالمعايير ولا حتى بكفاءة الأشخاص الذين اخترناهم لتمثيلنا داخل النقابة، لكن يبدو أن المشكلة كانت في عدم الإلمام بالأمور الإدارية كما غياب الجرأة وحسّ المبادرة. وهذا ما ولّد خيبة أمل واسعة لدى الرأي العام، ما انعكس سلباً في انتخابات الأعضاء في العامين 2022 و2023». ورأى ختاماً أن ما حصل واقع يجب التعلّم منه، شرط الالتقاء مع الآخَر في الانتخابات المقبلة مع التمسّك بقاعدة البرنامج الرؤيوي الثابت الذي اعتمدته «النقابة تنتفض» منذ العام 2021.
المطلوب شخصية قويّة
نبقى مع ائتلاف «النقابة تنتفض – مصمّمون»، لنسأل المندوبة في مجلس المندوبين، المهندسة ناهدة خليل، عن أبرز الإخفاقات. تقول إن البرنامج الذي وضعه الائتلاف ليس آنياً لأن محاولة إعادة تركيب البنية التحتية للنقابة تتطلّب دورات عدّة. «هناك شقّ قصير الأمد من البرنامج وحقّقنا جزءاً كبيراً منه، إضافة إلى آخر متوسط وثالث طويل الأمد. لكن التنفيذ لا يتمّ بـ»كبسة زرّ» في وقت لا تزال السلطة السياسية راسخة والتوظيفات المبنية على المحاصصة قائمة. وهذا ما شكّل صدمة لمن وضع ثقته بنا وبنى آمالاً على عملنا. لا بل هذا ما يواجهنا به الخصوم اليوم». أما عن الإصلاح الإداري والقوانين التي قيّدت عمل الائتلاف، حيث ذكرت أن المشترع وضعها حمايةً لنفسه، فهي بدورها بحاجة إلى وقت لتغييرها أو تعديلها.
نكمل مع الملفات الجدلية، وأبرزها حجز أموال النقابة من قِبَل المصارف. «لو تمتّع المجلس بقليل من الجرأة لتحوّلنا إلى حالة وطنية هدفها الضغط على المصارف. بيد أن النقيب لم يطرح الملف على جدول الأعمال، مثله في ذلك مثل كثير من الملفات الرئيسية التي لم تُطرح هي الأخرى كملف المتقاعدين، مثلاً، رغم الدراسات الجاهزة التي قدّمناها له ووعوده لنا التي لم يلتزم بها»، بحسب خليل. ومن العوامل التي ساهمت في مراكمة الإخفاقات مغادرة أعداد كبيرة من الشباب التغييريين إلى الخارج، وصعوبة وصول المجموعات المناطقية إلى النقابة والقيام بدورها نتيجة ارتفاع تكاليف النقل.
ماذا عن التوقّعات بأن الأحزاب سوف «تنتفض» في الاستحقاق المقبل؟ «رغم الإخفاقات، إلّا أن أبرز ما حقّقه المجلس النقابي هو الشفافية من خلال عرض جلسات المندوبين على وسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى التشاركية ووقف الهدر المالي عبر تعيين مدقّق مالي ومسؤول عن شؤون الموظفين. أما المطلوب اليوم فهو النزاهة والكفاءة والإلمام بالشؤون النقابية وشؤونها وشجونها، وذلك يتطلب شخصية قوية تملك الإصرار والقدرة على المواجهة». فلا أحد يمكنه إلغاء القوة التغييرية داخل النقابة، وفق خليل، لا سيّما مع صعوبة اتفاق الأحزاب في ما بينها. الحلّ لا يكون إلّا عن طريق الحوار بين كافة الأطراف، كما تنهي.
فشل ذاتي
محطتنا الأخيرة مع ممثل الهيئة الإدارية لتجمّع مهندسي لبنان، المهندس محمد الجباوي. وقد لفت في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أنه من غير المسموح وضع أعذار لتبرير فشل ائتلاف «النقابة تنتفض»، خصوصاً وأنه حصد مركز النقيب وتسعة أعضاء كما الأكثرية في هيئة المندوبين. «حتى البرنامج الذي وضعوه لم يلتزموا به، فبعضهم كان يطمح إلى المناصب على حساب مصلحة النقابة. والدليل هو تلك التقاطعات والاتهامات التي نشأت بين أفراد الائتلاف، ما أدّى إلى انبثاق أجنحة منشقّة عنه، منها «مصمّمون» و»صيدا والجوار». حتى نحن الذين وُلدنا من رحم «النقابة تنتفض» ونشكّل جزءاً أساسياً منها، فقد انشقّوا عنّا واستبعدونا كلّياً. هؤلاء هم من ساهموا في خراب «النقابة تنتفض» وإفشال الثورة كما القضاء على حلم كل إنسان يطمح إلى التغيير».
الجباوي حمّل المسؤولية الكبرى للنقيب ياسين إذ تبيّن عدم امتلاكه الخبرة النقابية الكافية وعدم إظهاره أي نيّة جدية للعمل في حين تنقصه الشجاعة في اتخاذ القرارات. وتساءل عن أسباب تمنُّع أمين السرّ وضع الكثير من الملفات على جدول أعمال النقابة لا سيّما وأنه يتبع لـ»النقابة تنتفض». كما اعتبر أن النقيب «فتح على حسابو» بدلاً من شبْك الأيدي مع المجموعات التي منحته ثقتها، متناسياً الوعود التي قطعها بالمحاسبة واعتماد الشفافية. «هناك شيء غير مفهوم. إما أن يكون ثمة ضغوطات من الأحزاب تحول دون تحقيق الأهداف التي كنّا نرجوها من المجلس، أم أن يكون كلّ منهم يحاول البحث عن مصلحته الشخصية. وهذا سينعكس عليهم سلباً في الانتخابات المقبلة، لأن الذين أوصلوهم في المرة الأولى ليسوا مستعدّين لمنحهم فرصة ثانية».
وعن الذين يعتقدون بأن الحلّ يتمثّل بعودة الأحزاب، يشرح الجباوي أن هناك توجّهاً لتحرّك فئة من المستقلين المعارضين لسياسة النقابة الحالية، بحيث يمكن لهؤلاء التعاون مع أي مهندس حزبي يعمل لمصلحة النقابة لا لمصلحة الفئة السياسية التي ينتمي إليها. «أتوقّع عودة الأحزاب بعد أن تسبّبنا نحن بإفشال ذاتنا لعدم تمكّننا من إثبات وجودنا ولا حتى إحداث أي فرق داخل النقابة. فالملفات كلّها بحاجة إلى معالجة، من التأمين إلى التقاعد فالاستشفاء فالشفافية وغيرها. أظن أن الشعب اللبناني يتمنى العودة مجدداً إلى خيار الأحزاب بعد أن فقد الثقة بنا وبالثورة».
على أي حال، ملامح الاصطفافات السياسية لمعركة انتخاب النقيب في نيسان المقبل بدأت تلوح في الأفق. فالمهندس بيار جعارة مرشّح من قِبَل «القوات» و»الكتائب» و»المستقبل». في حين يتداول «الثنائي» و»التيار الوطني الحر» بإسم المهندس فادي حنا. وبينما لم يحسم «الاشتراكي» موقفه بعد، يُعدّ المهندس جوزيف مشيلح نفسه ممثلاً لـ»النقابة تنتفض» ويطرح المهندس جورج غانم نفسه مستقلّاً.
بانتظار توالي الترشيحات، لا يكتم المعنيّون أن نقابة المهندسين ليست بخير. والمرشّحون لمركز النقيب سيكونون بالتالي أمام مهمّة إعادة «هندستها» من الداخل قبل أي شيء آخر.