مصطفى علوش

حول وثيقة الأخوة الإنسانية

11 آذار 2024

02 : 00

يقول سيادة مطران طرابلس إنّ الصيام في اللغة اليونانية القديمة يسمى «ميتا نويا» أي ما يتخطى التفسير بالفكر ليصل إلى التقى. وتقى الفكر هو بالسؤال لعمل السائل بأن فكره لا يحمل كل الحقيقة. من هنا فإنّ التقى ينطلق من الاعتراف بمحدودية الفرد، فكراً وقدرة.

يشاهد العالم اليوم أحد أبشع فصول الوحشية البشرية في ما يحدث في غزة حيث يشهد ما يسمي نفسه العالم الحر على الجريمة من دون أي حراك جدي لوقف الوحش مولوخ عن افتراس الأطفال.

سأخرج موقتاً عن الحديث الشاعري والماورائي في نقاش الموضوع، بالرغم من أنه في النهاية موصول بشكل لصيق بما هو شاعري وماورائي حتى نتمكن من الدفاع عن مضمونه بشكل إيماني.

ما هو مثبت في العلوم هو أنّ فطرة الإنسان أو طبيعته بعيدة كل البعد عن الوداعة، فعالم الفطرة هو حال الطبيعة حيث لا يمكن للإنسان أن يكون وديعاً ولا متسامحاً في عالم يكون فيه إما الفريسة أو المفترس. لكن تكوّن المجتمعات الكبرى بعد العصر الزراعي ونشوء المدن حيث الاحتكاك دائم ومتواصل بين البشر، فرض الحاجة إلى استنباط مواثيق لتنظيم هذا الاحتكاك والتواصل، من دون الحاجة إلى التيقظ الدائم المضني من ضربة غير محسوبة تأتيه على حين غفلة. هذا ما جعل حتى أعتى العتاة يقبلون بميثاق إنساني توافقي يتخلى الإنسان فيه عن بعض الحرية المطلقة، في سبيل التحرر من الخوف الدائم من الإنسان الآخر، وسمح له بالدخول في شراكة تعاونية مبنية على مصالح مشتركة.

هذه المواثيق ليست ثابتة، لا عبر الزمن ولا عبر الجغرافيا، وهي مرت بتناقيح متعددة وصلت إلى حد الثورات الكاملة التي نسفت مواثيق كانت صامدة عبر آلاف السنين، أي منذ نقشت أولى الوثائق السومرية بالكتابة المسمارية. ورغم أن شرائع حمورابي نُسبت إلى مردوخ لتتمتع بالمصداقية المقدسة، فإنّ تطبيق هذه الشرائع التي نظّمت مجتمعاً منذ 3700 سنة يصبح اليوم جريمة بحق الإنسانية. لكن، ورغم أننا نعيش في عالم يظن أنه وضع شرُعاً جديدة ومنمقة للعيش معاً، لا يبدو أنّ هذه الشرُع تشمل وتطبق إلا على الضعيف، فيما المتجبر المتسلح بقوة القتل، والمتمترس وراء ترسانة التكنولوجيا والسلاح النووي، لا يبدو أنه مرتبط بأي ميثاق إلا نظرياً.

من هنا، فإن المحاولات البائسة من قبل منظومة ما بعد الإنسان التي تسعى لعالم خالٍ من التاريخ ومن العبر ومن المقدس، همها منذ عقود اتهام وحصر التسبب بالعنف في منظومة الأديان العريقة، متهمة إياها بشتى أنواع الجرائم وبكونها مجموعة من القواعد العتيقة التي لا تصلح ولا تتلاءم مع عصر ما بعد الإنسان، أي البشري الجديد المبني على جملة من القواعد التكنولوجية الخالية من الإحساس والتعاطف.

لقد سعت الأديان الى ضمان المواثيق بين البشر، بربطها بقوة أعظم وأصفى وأكثر موثوقية من مزاجية ونزق الآخرين، لكونها أكبر من البشر مهما عظم شأن البعض منهم الذين تأخذهم العزة بالإثم بالتجبر والتكبر على البشر. من هنا، فإن سوء استخدام تعبير الله أكبر، من قبل بعض المسلمين، كشعار للاستقواء على بشر آخرين بحجة الانتصار لله هو إساءة لعزة الرحمن الذي هو غني عن نصرة البشر له. الله أكبر تعبير هدفه تذكير المتجبر الظالم بأنه مهما بلغت قوته وعظم شأنه، يبقى هو كيان ضئيل في وسع الرحمن الرحيم الغفور الكريم العدل الحكيم.

إن لفظة Tolerance ونظيرتها في العربية، وأعني التسامح، لا تفيان بالمطلوب لتأمين العيش معاً بسلام واستقرار وتعاون بين البشر. فالأولى تعني تحمّل ما لا يمكن تحمله، لكن هذا يعني القبول عن كره أو إكراه، كما أنه تعبير استنسابي مرتبط بقدرات وثقافة المتحمل، أما التسامح فهو عملية تبادلية تُفهم بكونها مسامحة الآخر على كره، مقابل الشيء ذاته من الآخر، وهي أيضاً عملية تجارية استنسابية. وقد يسعى بعض المجتهدين إلى استنباط تفاسير فلسفية أخرى، لكن الأهم من التعبيرين هو فهم الآخر قبل التحمل والتسامح، ووضع الذات في مكانها ومن بعدها أخذ القرار، هذا هو التعاطف العاقل بدل التسامح الأعمى. هذا الأمر يحتاج جهداً مضاعفاً، يتخطى الفطرة والجهل للوصول إلى تقبل التنوع في الشكل والآراء والعادات، وتقبل احتمال كون المرء على خطأ على أساس قول الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» من هنا الحاجة للاستماع والتروي وكظم الغيظ والجدال بما هو أحسن، وترك مصير الناس في اليوم الآخر لرب العالمين، وذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر... إن إلينا إيابهم وثم علينا حسابهم (صدق الله العظيم).

في عظة الجبل، السيد المسيح وبتفسير الوصية الخامسة «لا تقتل»، يفسّره بقول ألا تقاوموا الشر بمثله. وفي العظة تحدث عن الصدقة كتعاطف بين البشر ناصحاً بعدم إيثار كنوز الأرض التي يفسدها السوس والصدأ. في العظة أيضاً، كانت جملة نصائح بعضها «لا تدينوا لئلا تدانوا، فبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم»، و»لا تعطوا ما هو مقدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم أمام الخنازير» ثم قال «احذروا الأنبياء الدجالين الذين يأتون إليكم لابسين ثياب الحملان» وكم من دجال يعيش بيننا يعد الناس بمفاتيح الفردوس عن طريق الشر والبغضاء. كل ما سبق يوحي بأن الإنسان عليه تجاوز فطرته في سبيل العيش معاً. لكن كيف؟

القانون والسلطة يمكنهما أن يفرضا العيش معاً بقوة الإكراه، أما الإيمان بقوة أعظم من البشر وأكبر من صواريخهم ودمارهم، هي التي تجعل من التواضع رفيقاً لوجودنا والتآخي سمة إنسانية مقدسة، حتى وإن لم تجد تفسيراً علمياً لها.

وثيقة الأخوة الإنسانية خطوة عظيمة على مستوى القمة، ما نحتاجه هو تحويلها إلى واقع حياة يومية للبشر العاديين، نحافظ فيها على بعضنا البعض للعيش معاً ونتعاون، فالعلاقة مع الخالق أساسها العلاقة مع الآخر. وهي، ومع أنها تضع وثيقة مسيحية إسلامية، لكنها تضع المسلمين والمسيحيين أمام مسؤولية الالتزام بها نحو البشرية جمعاء.

فيلسوف كبير هو مارتن هيدغر، بعد عقود طويلة في البحث خارج عالم الغيب، أنهى مسيرته بتصريح قال فيه «لا شيء ينقذ البشرية سوى العودة للمقدس». نظرة واحدة إلى القرن الماضي تؤكد لنا أن فظائع الحروب كان أساسها أديان ملحدة كالنازية والليبرالية والشيوعية.

MISS 3