جيمي الزاخم

بعد رحلةٍ مع العلاج والقانون

كارمن جوخدار: التّغطيةُ مستمرّة وعينُ الحقّ تَرْعاني

13 آذار 2024

02 : 05

في 13 تشرين الأول 2023، انفجرت الشمسُ في علما الشّعب. تبعثرتْ واستُنسِخت ألوانُها الأرجوانيّة عند المَغيب مع قصف اسرائيلي أشعل ناراً موشّحةً بصورةٍ وصوت استُهدِفا بقذيفَةٍ وموت. على صخور السّطور، لن نعيدَ نقشَ تفاصيل استشهاد عصام العبدالله وصورته الأخيرة مع صحافيّين ومصوّرين يتعافون من شظاياهم. مذّاك، التشرينُ صار تَشارين. له إخوة من شهور ودمّ لا يُعرب إلّا كجمع غير سالم. 4 أشهر مرّت بين 13 تشرين و18 شباط. عادتْ بعدها مراسلةُ قناة الجزيرة، كارمن جوخدار، إلى الشّاشة لتُكملَ رسالتَها على صراط الواجب المهنيّ المُستَقيم.



من موقع الاستهداف




نكتب مع أخبار مفاوضات وتحليلات، بين أطفال غزّاويين يقضمِهُم الجوع. وواراهُم الطحينُ بدل التراب. وعلى وقع عمليّات جنوبيّة يخترقُها هدوءٌ موقّت، نُحاور كارمن جوخدار ببثّ داخليّ، بعد انتهاء البثّ المباشر. تضع جانباً سترةً واقية وخوذةً حَمتْ رأسَها. هما رفيقاها إلى أن تنام الحرب. حرب غطّتْها منذ صباح السابع من تشرين الأول. «كنت أوّل حدا بوصل ع الجنوب». غادرتْه بسيّارة إسعاف. وبسيّارة الإصرار، عادت إليه مع جراحها و»قلب يُرفرف كالفراشة». فارتباطها بالجنوب يُدمَغ بواجب الصّحافية «المؤمنة والمدافعة عن مبادئ إنسانيّة وأخلاقية تُترجمُها خيارات تصبّ في خدمة الإنسان وحقّه بحريّة أفكاره وأرضه». والجنوب «دليلٌ يُثبت أنّ حقّنا بهذه الحرية قابلٌ للتحقّق». بادلَها الجنوبيّون «حبّاً وتقديراً» لدمها وقلبها المتطلّع صوب فلسطين «التي تكون على بُعد خفقة قلب». عندما عاود هذا القلب الاستماعَ لأغنية «إسوارة العروس»، ارتعش مع عبارة «وإنت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب». سمعتْ صوتَ الأغنية بصدى التجربة واللّحظة: «هيدي قلوبنا نحنا!».

منذ اللّحظة الأولى، حسمت عودتَها فَوْرَ تعافيها. جسديّاً، لم تتعافَ بشكل كامل. أمّا نفسيّاً، فكانت تعي أن العودة تتطلّب قوّةً واتّزاناً لمُتابعة «مسار مهنّي لن يحدّدَه صاروخ». تسيرُ مع قوّتها وخساراتها وصدمتها التي فكّكتْها لتستوعب «هذا الحدث الجلَل». مع معالِجَة نفسيّة، لملمتْ جوخدار الشظايا وآثارَها. «تقول لي معالجتي إنّني كرّستُ جهداً كبيراً لأفهم ما حصل. فالأوجاع ما بتروح». لكنّها تقبّلتْها وتقوى عليها. على الهواء، تتعامل مع المخاطر المرافِقة بكلّ رباطة قلب وعقل. تنظرُ في عين الكاميرا وعين الواقع على تلّة من تلال مرجعيون. تُجاور الخيام، بلدةَ المصوّر عصام العبدالله. «لمّا تنزل غارة، بسأل إذا قريبة ع قبره؟ معقول عم يتمسخر متل العادة؟!». لعلّه يكتب السطرَ الأخير من قصيدة ابن بلدته وابن اسمه الشّاعر الراحل عصام العبدالله: « قدّامهن نهر الدّمع، عم يسبَحوا ما دمّعوا، قلبي عليهُن، يضهروا وما يرجعوا». وفي سطور قلبها، تحمل جوخدار أيضاً المصوّر إيلي برخيا، زميل 4 سنوات من التغطيات واليوميات الصحفيّة، الّذي يسلك طريقَه نحو الشّفاء. أمّا بالنسبة لعائلتها، «فصرت أتواصل معهم أكتر من التغطيات السابقة». الاستهداف وما تلاه وطّد فهمَها لمشاعرهم وخوفهم أن تُجاور»ابنتُهم الموتَ وترجع منّو». كلّ خياراتها لم تأتِ من بنات أفكارها فقط. تحمل جزءاً من «تربية زرعت هذه القيم والالتزام والمسوؤلية». أثناء عملها في جريدة «السفير» و»الجزيرة» وبينهما في «فرانس 24»، في تغطياتها في سوريا وأوكرانيا، «ولا مرّة كانت سهلة عليهن». لكنّ «العائلة طبّعت». لم تعتَد. وسلَّمَت بمَشيئتها ومشيئة الله. لا تريد تحميلَهم التوتّر والدموع. «بالمستشفى، شفت أوّل مرة والدي عم يبكي بسببي». تلقّى اتصالاً من فاعلةِ خَبر لا يعرفُها تنبئُه أنّ ابنتَه «ماتت بالجنوب». تسترجع نظراتهم وقلقَهم وقهرَها لأنّ «حياتهم عم تتأثّر» بمهنة تُجابه خطراً يعلن عن نفسه. «كنت مقهورة ع عيلتي وأعصاب شقيقتي الحامل». تنتظر كارمن المولودَ بفارغ الحبّ. يبزغ «نبضه، وسط كلّ ما حصل، مؤشّراً للحياة».



قُبيل الاستهداف... بعدسة عصام العبدالله



أمّا النبض المهنيّ، فلا يخضع استقرارُه للضربات الخاصّة. إنّ إكمال المسار «بمهنيّة واحتراف واتّزان هو فعلُ صمود». تصمد لتدافعَ عن مهنة وتغطية «يحرّكها الحدث وليس المراسل وما يُخالجه». فينقل «العمليات والانتهاكات دون نفحات عاطفيّة». تبني جوخدار سقفاً يرتكز على ضوابطَ ومعايير تنبثق من مهنتها وشخصيّتها. وتتعزّز مع «روحيّة واحترافيّة» قناة «الجزيرة» ومساحتها ومسؤوليتها «لأنّها القناة الأكثر مشاهدةً كناطقة باللغة العربية». قبل هذه الحرب وبعدها، وبين كلّ تغطياتها في المقارّ الرّسميّة والسياسية، سيبقى الانتماء الأوّل للميدان. إنّه نافذة «لتعريف المشاهد على عالمٍ لا يعرفُه». تعاملتْ مع أحداثه وصقلت خبرتَها كمراسلة حربيّة بدورة أمن وسلامة في فرنسا أثناء متابعتها دراستَها الجامعيّة. وبشكل دوريّ، تنظّم قناةُ «الجزيرة» دوراتٍ تدريبيّة على كيفية المحافظة على السلامة الشخصيّة والتعامل مع الأزمات. يوم الاستهداف، التزمت بها جوخدار. «ولو عاد بي الزّمن، لما غيّرتُ شيئاً. تمّمنا كل الاحتياطات والاجراءات».

تتمّم هذه المعركة المهنية مع معركة الحقّ بالقانون. «بدلاً من التفكير كيف أستريح وأتعافى، كان القرار خوض معركة جدّية ومُرهِقة مع المنظمات الحقوقيّة الدولية لإصدار إدانات تؤكّد الاستهداف الاسرائيلي المتعمَّد». هي معركة «كارمن الصحافية وليست المصابة فقط». هذا صوت عن «كلّ صحافي على الجبهة. وحقّ زملاء استشهدوا في الجنوب وغزّة، إضافة لكلّ صحافي مستقبليّ». هي معركة سرديّة دائمة بين الصحفيّ والنفوذ العسكري الذي يسعى دائماً «لطمس كل صورة تتنافى مع سرديّته وتكشف انتهاكاته، فتُصوَّبُ أحدثُ الأسلحة إلى كاميرتِه». تُدرك كارمن قدرةَ الاحتلال الاسرائيليّ على «الإفلات من العقاب». ولكن مهنيّاً وإنسانيّاً، «إنّنا نخوض معاركَنا مزوّدين بقناعاتنا بمعزل عن النتائج». هذا التوثيق برهان يبقى في عهدة السنين والعقود. «فسمةُ الإفلات من العقاب ليست حُكماً أبديّاً. والتاريخ يخبرنا عن إمبراطوريات واحتلالات تغطرسَتْ وأتى يوم وُضع حدّ لإجرامها».

هذه جولات من معركتها الكبرى مع الحياة. عام 2012، دَهَستْها سيارة. الرّأي الطبّي «فقد الأمل ووضع سيناريوات» أحلاها مرّ. ولكنّ كارمن كتبت السيناريو عن سبق إصرار وقوّة. لم تكن قادرةً على المشي. حملتْها والدتُها على ظهرها لتقدّم امتحاناتِها في كليّة الإعلام - الجامعة اللّبنانية. استندتْ إلى العمود الفقريّ والعاطفيّ. وصعدت ثلاثَة طوابق. وتابعت كارمن صعودَها صوب مستقبلها. «قبل وهلّق، بقول يا ريت فيّي إتنقوز ع المستقبل حتى أعرف ليش بقيت عايشة». وبانتظار الإجابة، لا تلعب مع الحياة لعبة الغمّيضة. لا تختبئ منها. تركض صوبها وتُصافحُها.

MISS 3