ستيفن والت

لم يفت الأوان على تبنّي سياسة خارجية أميركية قائمة على ضبط النفس

16 آذار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

أنقاض كنيسة في بوهوروديتشني إثر الحرب الروسيّة على أوكرانيا | منطقة دونيتسك، أوكرانيا، في 27 يناير 2024

لاقت فكرة ضبط النفس رواجاً واضحاً بعد الحربَين الأميركيتَين في العراق وأفغانستان، لكن تبقى المنافسة بين القوى العظمى على رأس أولويات الأجندة الأميركية اليوم. تتابع القوة الصينية توسّعها رغم مشكلات البلد الاقتصادية، ورغبته في تغيير الوضع القائم في آسيا. في غضون ذلك، أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا وأثبتت تفوّقها في هذه المرحلة، مع أن مكاسبها ترافقت مع تكاليف باهظة. كذلك، زاد التعاون بين الصين، وروسيا، وإيران، وكوريا الشمالية، وعدد من البلدان الأخرى، وتباطأت الجهود الرامية إلى إعادة بناء قدرات الدفاع الأوروبّية بدرجة لا يتمناها البعض. في الوقت نفسه، يستمر سفك الدماء في غزة، ويبقى احتمال توسّع نطاق الحرب مرتفعاً على نحو غير مقبول. كذلك، تتابع الحروب الأهلية والحركات الجهادية حصد الأرواح في السودان، وليبيا، وإثيوبيا، وعدد من البلدان الأفريقية الأخرى، بينما تتابع روسيا والصين التقرب من حكومات تلك الدول وتُحققان درجة من النجاح في مساعيهما. ربما تلاشت مظاهر الغطرسة التي كانت سائدة خلال التسعينات، لكن انهارت أيضاً القناعة القائلة إن الصراع بين القوى العظمى يبقى مستبعداً. نظراً إلى هذه التطورات كلها، هل تُعتبر السياسة الخارجية المبنية على الواقعية وضبط النفس منطقية حتى الآن؟ وهل حان الوقت كي يتحرك الأميركيون ويسترجعوا دورهم في قيادة العالم وينشغلوا بكبح الظروف الجيوسياسية الشائكة؟ وهل جاء زمن ضبط النفس قبل أن يتلاشى سريعاً؟ يبدو الواقع مختلفاً.

يجب أن نوضح أولاً حقيقة ما يريده المعسكر الداعم لسياسة ضبط النفس. في المقام الأول، يعارض هذا الفريق خوض «حروب اختيارية» غير مبررة إذا كانت المصالح الأميركية الحيوية غير مرتبطة بها. لا يُعتبر هؤلاء أشخاصاً سلميين ولا انعزاليين، بل إنهم يدعمون دفاعاً وطنياً قوياً ويعترفون بضرورة أن تبدي الولايات المتحدة استعدادها لاستعمال القوة في الخارج في بعض الظروف. بدل الانسحاب من العالم إذاً، يدعو داعمو ضبط النفس الولايات المتحدة إلى إطلاق عمليات تجارية واستثمارات في بلدان أخرى، وتشجيع الدول على القيام بالمثل، والانفتاح على فكرة التحكّم بحركة الهجرة بدل بناء الأسوار والتمسك بنزعة كراهية الأجانب. برأي هذا المعسكر، يجب أن تكثّف الولايات المتحدة تحركاتها وتواصلها مع الآخرين، فتعطي الأولوية للديبلوماسية وتجعل استعمال القوة الملجأ الأخير بدل أن يكون الحل الأولي. يدرك داعمو هذه المقاربة أيضاً حدود القوة العسكرية، ما يعني أنها قد تصبح ضرورية في بعض الظروف، لكنها تبقى أداة صارمة وقد تنتج عواقب غير مقصودة. كذلك، يصعب الحفاظ على دعم الرأي العام للحروب إذا كانت هذه الأخيرة غير مرتبطة بالمصالح الحيوية وإذا كان نجاحها مبهماً. يعارض هذا المعسكر محاولات نشر القيم الليبرالية عبر تغيير الأنظمة والاحتلال العسكري، لأن هذه الجهود تؤدي عموماً إلى الغرق في مستنقعات مكلفة أو نشوء دول فاشلة.

عملياً، يظن معظم داعمي ضبط النفس أن الولايات المتحدة يجب أن تفك ارتباطها العسكري بمنطقة الشرق الأوسط، وأن تقيم علاقات طبيعية مع كلّ دول المنطقة بدل أن تُطوّر علاقات «خاصة» مع دول قليلة وتمتنع عن إقامة أي علاقات مع بلدان أخرى. برأيهم، يجب أن تُشجّع واشنطن حلفاءها في «الناتو» على تحمّل مسؤوليات متزايدة للدفاع عن أنفسهم. لكن على عكس الشخصيات التي تحاول تقمّص شخصية ترامب، مثل السيناتور الجمهوري جيمس ديفيس فانس، يدعم معظم مؤيدي ضبط النفس متابعة إرسال المساعدات إلى أوكرانيا، تزامناً مع بذل جهود مرنة ومتفانية للتوصل إلى تسوية ديبلوماسية. لكن ينقسم هذا المعسكر حول أفضل طريقة للتعامل مع الصين، إذ يفضّل البعض تكثيف الجهود لاحتوائها بينما يشدد البعض الآخر على ضرورة تخفيف التوتر والسعي إلى إقرار تسويات ترضي الطرفَين. لكن يُجمِع هذا المعسكر على استمرار الالتزامات الأميركية المفرطة في الخارج ونزعة واشنطن المستمرة إلى الاتكال على الحلول العسكرية التي تعجز عن معالجة المشكلات السياسية الكامنة.

تنطبق هذه الفكرة على الوضع الراهن بقدر ما كانت تتماشى مع الظروف منذ عشر سنوات أو أكثر. كانت الولايات المتحدة لتتجنب جزءاً كبيراً من المشكلات التي تواجهها اليوم لو أنها أصغت إلى تحذيرات داعمي ضبط النفس. لو لم تدعم واشنطن توسيع حلف «الناتو» وجلب أوكرانيا إلى المحور الغربي وصولاً إلى ضمّها لاحقاً لـ»الناتو»، ما كانت روسيا على الأرجح لتستولي على شبه جزيرة القرم في العام 2014 أو تُقدِم على غزو أوكرانيا في شباط 2022. لا يمكن التأكيد على أي من هذه الأحداث طبعاً، لكن لم يبذل المسؤولون الأميركيون كلّ الجهود اللازمة لمنع الحرب التي بدأت أوكرانيا تخسرها اليوم.

تقدّم أحداث الشرق الأوسط درساً مشابهاً. أخطأت إدارتا ترامب وبايدن حين ركّزتا على محاولة تطبيع العلاقات بين إسرائيل وجيرانها العرب، تزامناً مع تجاهل الفلسطينيين الذين يتعرّضون لضغوط متزايدة من جانب الحكومات الإسرائيلية اليمينية التي تزداد تطرفاً. في هذا السياق، حذّر داعمو ضبط النفس من احتمال أن تفجّر هذه المقاربة الشائبة الوضع، وقد اتضحت صحة هذه التحذيرات في الأحداث المأسوية التي شهدها يوم 7 تشرين الأول 2023.

أسفر الهجوم الإسرائيلي في غزة عن مقتل أكثر من 31 ألف فلسطيني حتى الآن وتدمير 50 أو 60 في المئة من المباني في القطاع أو إلحاق الأضرار بها، كما أنه شوّه سمعة إسرائيل (والولايات المتحدة) على الساحة العالمية. تثبت هذه التطورات مجدداً حدود القوة العسكرية. تتفوّق إسرائيل عسكرياً بكل وضوح وتستعمل قوتها العسكرية بلا رادع، لكن لا يمكن حل الخلافات السياسية المسؤولة عن استمرار الصراع مع الفلسطينيين عبر استعمال القوة بكل بساطة. لن يكون التحرك العسكري كافياً لتدمير حركة «حماس»، ولن تُعالَج بهذه الطريقة المشكلة الأساسية التي تتعلّق بالتوفيق بين الطموحات المشروعة لليهود الإسرائيليين والفلسطينيين العرب والسماح للشعبَين بعيش حياة آمنة. ينطبق الوضع نفسه على الجهود الأميركية الرامية إلى منع هجمات الحوثيين ضد عمليات الشحن في البحر الأحمر عبر إلقاء القنابل وإطلاق الصواريخ في اتجاههم، بدل استعمال النفوذ الأميركي الكبير لوقف إطلاق النار في غزة (إنه شرط الحوثيين المُعلن لوقف اعتداءاتهم). تؤكد هذه الأمثلة على النزعة التلقائية إلى الاقتناع بإمكانية حل المسائل السياسية المعقدة عبر تفجير الوضع، وهي نزعة انفعالية لطالما عارضها مؤيدو ضبط النفس.

على صعيد آخر، يعترف داعمو ضبط النفس أيضاً بأن القوة الأميركية لها حدود معيّنة رغم حجمها الفائق. في هذه الحقبة القائمة على المنافسة بين القوى العظمى، زادت أهمية تحديد أولويات واضحة والامتناع عن طرح أهداف أميركية متناقضة. اليوم، تحاول الولايات المتحدة مساعدة أوكرانيا على هزم روسيا، وتدعم جهود إسرائيل للقضاء على «حماس» بغض النظر عن الخسائر البشرية، وتسعى إلى شلّ الجهود الصينية الرامية إلى تطوير أشباه موصلات من الطراز العالمي وتقنيات رقمية أخرى بشكلٍ دائم. لا تُعتبر هذه الأجندة مبنية على ضبط النفس، وتبدو التناقضات فيها واضحة وانهزامية في آن. بدل تأجيج الصدام بين قوتَين أساسيتَين في أوراسيا، أمضينا عقوداً عدة ونحن نمنحهما أسباباً إضافية لتكثيف التعاون بينهما. وبدل عزل روسيا والحد من النفوذ الصيني في الجنوب العالمي، جاء دعمنا للحملة الإسرائيلية في غزة ليؤكد على نفاق «النظام الدولي الليبرالي»، فسلّمنا الصين انتصاراً يقوم على حملة دعائية رخيصة. كذلك، كان فشل الرئيس جو بايدن في العودة إلى «خطة العمل الشاملة المشتركة» مؤثراً، فقد دفع إيران إلى استئناف برنامجها النووي، وزيادة دعمها لمختلف عملائها في المنطقة، وتقديم دعم عسكري ناشط لجهود روسيا في أوكرانيا.

أخيراً، لطالما حذّر داعمو ضبط النفس من التداعيات المحلية للالتزامات العسكرية المفرطة و»الحروب الأبدية». للحفاظ على دعم الرأي العام لسياسة خارجية طموحة بدرجة مبالغ فيها، يجب أن يتكل القادة الأميركيون على قوة عسكرية تقتصر على المتطوعين، ما يسمح بحماية معظم الناخبين من عواقب قراراتها. يواجه الجيش الأميركي في الوقت الراهن أزمة حادة على مستوى تجنيد العناصر. وفق «معهد الحرب الحديثة» في أكاديمية «ويست بوينت»، يتعلّق جزء من السبب برؤية جيل كامل من المجندين وهم ينتشرون مراراً في ساحات حروب غير محدودة. أخفى الرؤساء الأميركيون تكاليف تلك النشاطات عبر اقتراض المال بدل رفع الضرائب، وعبر تضخيم التهديدات وإخفاء جزء من نشاطاتهم عن الشعب الأميركي. لكن عند الكشف عن تلك النشاطات السرّية في نهاية المطاف، لا مفر من انهيار الثقة بالمؤسسات العامة. أدرك الآباء المؤسّسون في الماضي أن الجمهوريات التي تخوض حروباً دائمة تُعرّض طابعها الجمهوري للخطر. يسهل أن نلاحظ اليوم أن هشاشة الديموقراطية الأميركية المستجدة تنجم جزئياً عن سياسة خارجية فاشلة وغير واقعية، وهي سياسة يحاول داعمو ضبط النفس تصحيحها.

ما من عقيدة مثالية في مجال السياسة الخارجية، إذ يُفترض أن تخضع كلّ الأفكار للمراجعة في ظل تطور الظروف العالمية. ينطبق هذا المبدأ على فكرة ضبط النفس أيضاً. يجب أن يبقى داعموها منفتحين على إعادة النظر بمواقفهم عند ظهور معلومات جديدة ووقوع أحداث غير متوقعة. لكن تبقى الدعوة إلى ضبط النفس مقنعة حتى الآن، لا سيّما عند مقارنتها بخيارات بديلة لا تزال شائعة في واشنطن. في المقابل، لن يكون التمسّك بالسياسات التي أوصلتنا إلى الوضع الراهن منطقياً بأي شكل.

MISS 3