يقول دايفد هيل في كتابه الذي اختار إصداره بعد تقاعده من العمل الدبلوماسي الرسمي «ليس هذا الكتاب سيرة ذاتية. ولقد أبقيت نفسي في الغالب خارج الصورة حتى عندما كنت حاضراً، لتجنّب أيّ فهم خاطئ لمحورية الشخص. ومع ذلك، فإنّه لا يسَعه إلا أن يعكس المواقف المكتسبة على مدى عمر من الإهتمام بالعلاقات اللبنانية – الأميركية، والرغبة ولو عديمة الجدوى في أنّنا– وأنا– قد قُمنا بما هو أفضل. ولكن هناك أمثولة أخرى من أمثولات لبنان العديدة تتلخّص في محدودية القوة الأميركية، وخاصة وللمفارقة، في بلدان ذات أهمية من الدرجة الثانية بالنسبة إلى الأمن القومي الأميركي. لقد كان لي الحظ بتوافر فرصة لكتابته أثناء وجودي في مركز ويلسون خلال تمضيتي إجازة عام من وزارة الخارجية الأميركية سنة 2021. ولقد طلبت الوزارة أن أُدرِج هذا الإعلان: «إن الآراء والتوصيفات الواردة هي آراء المؤلف ولا تعبر بالضرورة عن آراء حكومة الولايات المتحدة».
خارج الصورة وداخلها
هكذا يبدأ هيل بالفصل بين مواقفه وقراءاته التي أوردها في الكتاب، وبين موقف الإدارة الأميركية. وهو أراد شخصياً الفصل من خلال الإبتعاد عن تقديم رواية شخصية عن الأحداث حتى تلك التي كان حاضراً فيها بحيث أبقى نفسه خارج الصورة. هيل يكتب إذاً كشاهد وكمراقب. والخلاصة التي خرج بها تُعتبر رسالة سلبية وقاسية تجاه السياسة التي اعتمدتها واشنطن في لبنان. ولكن هذا الإبتعاد عن السيرة الذاتية يحمِّله أيضاً مسؤولية عدم الغوص في ما كان يفعله كسفير، وفي ما كان يقترحه على إدارته، وفي ما إذا كانت هذه الإدارة قد أخذت بنصائحه.
وبالتالي لا يكفي أن يكتب هيل عن خلاصاته التي أبدى فيها حرصاً على لبنان السيد المستقل معتبراً أنّ المشكلة الأساسية تبقى في الدور الذي يلعبه «حزب الله» الذي يمنع لبنان من استعادة هذه السيادة، محمِّلاً واشنطن مسؤولية التخلّي عن لبنان في معظم المحطات التي تحدّث عنها. وهذا الأمر يطرح سؤالاً وجيهاً يتعلّق بما إذا كان هيل يُعبّر بهذا الكتاب عن خيبته من عدم الأخذ بمواقفه، وهل أراد أن يكتب في محاولة لتبرئة ذمّته، خصوصاً أنّ وزارة الخارجية، كما كتب، تبرّأت من الكتاب قبل صدوره. وبالتالي هل كانت الإدارة الأميركية فوق نصائح السفراء؟
ولد هيل عام 1961 في نيو جيرسي. وهو خريج جامعة جورج تاون، ويتحدّث العربية. خدم في البعثات الأميركية في تونس، البحرين، المملكة العربية السعودية والأمم المتحدة. وتدرّج في وزارة الخارجية حتى صار سفيراً لدى المملكة الأردنية الهاشمية بين عامي 2005 و2008، ونائباً للمبعوث الخاص للسلام في الشرق الأوسط بين 2009 و2011، وصار المبعوث الخاص بين 2011 و2013 قبل أن يُعيَّن سفيراً في لبنان بين آب 2013 وآذار 2015 عندما نقل سفيراً إلى باكستان، ليتولّى بعدها منصب نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، ووكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية.
هيل وحلم جدّيه وإنذار ميرفي
ثمّة ارتباط عاطفي بين هيل ولبنان. «لقد كان لبنان جزءاً كبيراً من حياتي»، هكذا يقول في مقدمة كتابه. ويضيف: «بدأ الأمر مع جدَّيَ اللذين كانا يحبّان السفر حول العالم ووجدا لبنان وجهة تستحق السفر قبيل ولادتي عام 1961. أرسلت جدتي إلى بيتنا بطاقة بريدية تصف بيروت بأنّها مدينة جميلة ورومانسية». هذا الحلم الذي يشير إليه هيل يتبدّد فجأة عندما ينتقل إلى الحديث عن المهمة الأولى له في لبنان حيث يظهر بوضوح انتقاده لسياسة بلاده، وحيث يظهر أيضاً دوره كشاهد عيان على عكس ما قاله بأنّه أخرج نفسه من الرواية.
وهذا الأمر يُظهر الفارق بين أن يكون مجرّد شاهد أو مراقب وباحث، وبين أن يعود إلى رواية تجربته كسفير، خصوصاً أنّه يتجنّب في الكتاب ذكر أي وقائع شارك فيها إلا لماماً وفي أحداث جانبية. يقول هيل: «أول مرة وضعت فيها قدمي في لبنان كانت في أيلول 1988، بعمر 27 عاماً. وكان ديك (ريتشارد) ميرفي، مساعد وزير الخارجية، في مهمة إنقاذية ترمي إلى تسهيل عملية اختيار رئيس لبناني مقبول من الرئيس السوري حافظ الأسد والقيادات اللبنانية. وكان مفتاح الحل هو قبول المسيحيين الموارنة بمَن سيقع عليه الإختيار مِن بينهم بموجب الميثاق الوطني غير المكتوب. كانت تلك الرحلة الفصل الأخير من مسرحية أميركية استمرّت مدة عام، تسابق الموعد النهائي لانتهاء ولاية الرئيس آنذاك أمين الجميِّل. أعطى الإحتلال السوري لجزء كبير من لبنان الأسد معظم الأوراق، ولكن ميرفي أراد منه أسماء مرشَّحَين أو ثلاثة وسطيين للرئاسة، لإعطاء اللبنانيين المسيحيين الموارنة خياراً، يحفظ لهم ماء الوجه من قائمة الأسماء التي اختارها الأسد. لقد كنت مساعد ميرفي لشؤون الموظفين، أي أنّني كنت في أسفل درجات الهرم الوظيفي في وزارة الخارجية. كانت تلك رحلتي الأولى معه، ووظيفتي الإشراف على التفاصيل اللوجستية».
يتابع هيل: «بعدما تركه ينتظر لمدة أسبوع في دمشق، استدعى الأسد ميرفي في إحدى الأمسيات، وأعطاه اسم مرشح واحد «مخايل الضاهر». كان الضاهر محامياً وعضواً في البرلمان من منطقة شمالية متاخمة لسوريا وخاضعة لنفوذها، ومتحالفاً مع عائلة فرنجية النافذة. عاد ميرفي من القصر الرئاسي، وجمع فريقه في حديقة بيت السفير الأخير (في سوريا) تجنباً للتنصت. ودار نقاش ساخن. لم يكن ما ينقله ميرفي خياراً، بل إنذاراً نهائياً للقادة الموارنة، وكنّا نعلم أنّهم سيرفضونه. وبالنظر إلى اقتراب الموعد النهائي لخروج الجميل من القصر، قرر ميرفي أن لا خيار أمامه سوى التوجه إلى بيروت في اليوم التالي والإستفادة مما قدّمه له الأسد».
ويضيف هيل: «أما بالنسبة إلى الصورة الأكبر، فقد اختصرت الرسالة التي حملها ميرفي إلى اللبنانيين بأنّها «الضاهر أو الفوضى». لم يكن ميرفي يميل إلى مثل هذه العبارات الفاقعة، لكنّها كانت جوهر رسالته. كما توقّعنا. رفض الموارنة إملاءات الأسد، ولكن من دون أن يكون لديهم بديل. غادر الجميل منصبه في الوقت المحدّد، وسلم المفاتيح إلى قائد الجيش ميشال عون. وسقط البلد بالفعل في حالة من الفوضى، مزّقت أزمة دستورية الحكومة وولّدت مضماراً للقتال، ليس بين المسلمين والمسيحيين فحسب، بل بين المسيحيين أنفسهم. وفي نهاية المطاف جثا اللبنانيون على ركبهم واكتملت السيطرة السورية».
ما لم يقله عن جعجع
إذا كان هيل شهد تلك الواقعة وأعاد استخراجها من الذاكرة ووصفها على حقيقتها بالعبارات المناسبة والواقعية متحدّثاً عن خيارات الموارنة وعن الإحتلال السوري وعن اكتمال السيطرة السورية على لبنان وجثو اللبنانيين على ركبهم، فإنّه يستكمل الرواية بعد انتقاله إلى العمل في السفارة الأميركية في بيروت في شباط 1992 بالتزامن مع اغتيال أمين عام «حزب الله» السيد عبّاس الموسوي، حيث يشهد على مرحلة التساهل الأميركي مع دمشق على حساب السيادة اللبنانية، لأنّ إدارة الرئيس بيل كلينتون كانت تسعى إلى اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل وتراهن على أنّ الأسد قادر على لجم «حزب الله» الناشئ في لبنان.
في تلك المرحلة يشير هيل إلى النصيحة التي تلقاها من السفير الأميركي وقدّمها إلى المسيحيين بالمشاركة في الإنتخابات النيابية، وهو مدرك أيضاً أنّها فعل أمر سوري وأنّهم سيرفضون الطلب كما رفضوا خيار الضاهر. هذه السيطرة السورية برضى واشنطن لم تكن مرتبطة فقط بما يحكى عن مشاركة الأسد في التحالف الدولي الذي قادته واشنطن لطرد الجيش العراقي من الكويت، بل بأجندة مختلفة كانت واشنطن تعتقد أنّها يمكنها من خلالها إدخال الأسد في عملية السلام، وهو الأمر الذي لم يتحقّق أبداً. على العكس استغلّ الأسد التخاذل الأميركي ليثبت سيطرته على لبنان ويقوي نفوذ «حزب الله».
هيل لم يذكر في الكتاب أنّه كان شاهداً أيضاً على سلسلة تداعيات تلك المرحلة على المسيحيين ومنها أنه نقل إلى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع قبل أن يتمّ اعتقاله في 21 نيسان 1994 أنّهم لا يمكنهم إلا أن يضمنوا له حياته في ظلّ المسار القضائي الذي ستسلكه قضيته. وثمّة روايات تتحدّث عن أنه نقل إلى قائد الجيش وقتها إميل لحود، وإلى رئيس الجمهورية الياس الهراوي، طلباً أميركياً بالحفاظ على حياة جعجع في محلّ التوقيف في سجن وزارة الدفاع، على رغم الروايات التي تحدّثت عن محاولة اغتيال كان يمكن أن يتعرّض لها خلال عملية اعتقاله في غدراس، أو خلال نقله إلى وزارة الدفاع.
شاهد على الفراغ الرئاسي
هيل الذي يحكي تلك الوقائع سيصبح سفيراً لبلاده في لبنان بين عامي 2013 و2015. وسيشهد محطة ثانية من الفراغ الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. في سياق الكتاب وسرده للمحطات الست التي يتحدث عنها، ينتهي هيل إلى تحميل السياسة الأميركية مسؤولية نقل لبنان من الإحتلال السوري إلى الإحتلال الإيراني وإلى سيطرة «حزب الله». وهو سيتابع مسألة الفراغ الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون بصفته مساعداً لوزير الخارجية قبل تقاعده، وزائراً باحثاً في معهد ويلسون بعد تقاعده.
هل كان على هيل أن يعيد اكتشاف لبنان بعد خروجه من العمل الدبلوماسي أم قبل أن يصير سفيراً؟ وهل ما قام به كان تعويضاً عن تقصير في عمله في الإدارة الأميركية؟ أم حنيناً إلى رومانسية بيروت التي حكى عنها جدّاه وتكسّرت بفعل السياسة الأميركية التي لم يستطع أن يغيّر فيها؟
يتبع الأربعاء 27 آذار:
دايفد هيل ومحطات الخيبة والأمل
أيهما أفضل أن تكون عدواً لأميركا أم صديقاً؟