جورج شبلي

لقد طفحَ الكَيل...

25 آذار 2024

02 : 00

من حقّ الحقّ، أن يتمَّ استعراض مواقف ما يُسمّى أفرقاء على الساحة اللبنانية، وذلك ليتبيّن الناس الخيط الأبيض من الخيط الأَسود. والغرض من هذا الإستعراض، ليس البحث عن اتهامات تُرمى على المتناحِرين، المتنافِرين وأغلبهم، في الواقع، مصيبة كارثيّة على الوطن، إنّما لتظهير مشهد متكرّر يُحال أمام الرأي العام، لفهمه، أولاً، ولاستيعاب خطورته، ثانياً، ولتكوين موقف جريء صائب معلَن، منه، أخيراً.

في لبنان، ينقسم مُتعاطو الشأن العام إلى جنسَين: السياديّين والمُمانِعين، ولا نقول: الموالاة والمعارضة، لأنّ هذا التصنيف يحتمل إشكاليّات وتمويهات تهدف إلى تضييع الحقيقة، كانتقال «مصلحجيّ» من مُعارض إلى مُوالٍ، وبالعكس، أو وضع رِجل في « بُورِ» المعارضة، ورِجل في «فلاحة» الموالاة، للتمويه والتورية المقصودة. بالإضافة إلى أنّ التطبيق المُلتوي لحالة الموالاة والمعارضة، عندنا، لا يمتّ بصلة، إطلاقاً، للمفهوم الديموقراطيّ لهذَين التعبيرَين.

فالموالاة، ديموقراطياً، هي مجموعة تتولّى الحكم والسلطة، استناداً إلى كونها تُشكّل الأكثريّة التي تنجم عن الإنتخابات النيابيّة، أمّا المعارضة فهي مجموعة الأقليّة التي تتولّى مراقبة الحاكِمين، ومحاسبتهم، والإضاءة على ترّهاتهم، وما يأتون من موبقات وفساد، لتوظيف ذلك ضدَّهم في الانتخابات القادمة.

وإذا استندنا إلى ما يدبّجه القاموس السياسيّ الدّولي في المبدأ الديموقراطيّ، كما أسلَفنا، نتبيّن أنّ حالة لبنان، في هذه المسألة، هي بهلوانيّة، غريبة، هرطوقيّة، تعمل حسب شريعة الغاب.

وإذا أردنا أن نتجاوز مَنْ يحيط الإلتباس بمواقفهم الإستعراضيّة الباهتة، هؤلاء المُتمادين باستغباء الناس، والذين رصيدهم الكذب، والتّلفيق، والوقاحة، والتلوّن، وعنوانهم الإنفصام وعدم الإتّزان والأداء المُعوَجّ، يبقى لدينا جِنسان، السياديّون وجماعة ما يُعرَف بالممانعة.

إنّ ما صدر، ولمرّات عديدة، عن بكركي، وعن الدوائر الإعلاميّة في الأحزاب السيادية، وعن رجالات وطنيّة، لا ينتمي إلى التّقسيط السياسي، إنّما كان القصد منه، التّركيز على إقامة مشروع الدّولة، إستناداً إلى مفهوم السيادة التي تُمثّل شعار الكرامة الوطنية، وتُجسِّد معاني الحرية والإستقلال، ومبدأ تقرير المصير، بمعنى أنّ الدولة تمتلك، وحدها، شرعيّة الوجود كسلطة تنسحب على كامل جغرافيا البلاد، وأهلها، بقواها المسلّحة، وقوانينها، وقضائها، ومؤسّساتها...

أمّا مَنْ يُطلِقون على أنفسهم لقب الممانِعين، فمعهم يعيش الشّعب في «جمهورية المَوز»، حيث النظام غير مستقِرّ، والحكومة صُوَريّة في هيكل فارغ، والهويّة في مهبّ التّجاذبات، والكيان يُعمَل على استبداله بتركيبة هجينة. كلّ ذلك، وسواه، فرضَه استقواء غير شرعي، لا يراعي مصلحة الوطن والناس، ويعمل على هدم مؤسّسات الدولة، وإنهاك اقتصادها، وإتلاف دستورها، وسَلب قرارها، وانتهاك سيادتها، وجعلها رهينة خاضعة لمرجعيّة رجعيّة ليست أَرحم من ذلك العرّاب القامع المَقيت.

من المهمّ جدّاً، ألّا يُعطى الذين نحروا الوطن، وكانوا وصمة عار شوّهت مُحيّا البلاد، صُكوك براءة وطنيّة، فهؤلاء الآتون من مرحلة قبل الدولة، أعادوا، بسلوكهم الهجين، إِحياء همجيّة هولاكو وسواه مِمَّن كانوا، في التاريخ، لوثة زمن رديء. من المهمّ، أيضاً، أن تتمّ المبادرة إلى إقرار معجم سياسيّ جديد يُعيد إنتاج دلالات لكثير من المصطلحات السياسية المُتداولة، عندنا، بعد تشويشها، وبعد فقدان هيبة الدولة في مواجهة تقويضها: فالكيان، وهو الثَّبات في الحضور الكريم والحرّ، يقوم على أقانيم ثلاثة هي الشّعب، والأرض، والنّظام.




والوطنيّة تتمدمك على معيار الإنتماء والولاء، فقط، وهما جوهر العلاقة بين المواطن والوطن. ومن المهمّ، أخيراً، نَزع الطّقس الطّوباوي، والوقار السياسي، والعمل على مجابهة الشعارات الخشبيّة التي تضرب مكوّنات قيام الوطن، داخليّاً بتشكيل جبهة متراصّة غير مفكّكة من السياديّين الذين يرفضون ثقافة الموت، وبِدعة الحرب العبثيّة، واستيلاء المستَقوين غير الشرعيّين على قرار الوطن، وخارجيّاً بطرح قضية لبنان في عواصم القرار، بتحريك متواصل «للّوبي» اللبنانيّ السياديّ، وفَرض إدراج أزمة لبنان بَنداً على طاولة المفاوضات، لإيجاد حلّ سريع ومُناسب لحيثيّة الوطن، ولآمال أجياله، انتصاراً للإنسان.

لقد طفح الكَيل من المعالجات الكاذبة، ومن التّسويف المقصود، ومن التَّخدير العقيم، ومن تَدحرجِ الأوضاع إلى الهاوية، ومن التّقصير وغياب الجديّة، ومن ضبابيّة المواقف، ومن اللّامبالاة، ومن التلطّي خلف برامج ورقيّة واهية. نحن نريد خياراً له مَذاق خاص، خَياراً سلطَويّاً يمنع تحويلنا كبش محرقة، وإنّ إرادتنا، هذه، ليست في غير زمانها، لذلك، فليعلموا أنّ شأننا شأن الرّجال المواجِهين الذين يُعتَدُّ بهم في المواقف الملتهبة، ونستطيع أن نُحدِث صدمة نوعيّة، مهما كانت التّضحيات، وبجرأة لها صدًى، قوامها أنّ الحُلم بتقويض لبنان سوف ينقرض، ولن نسمح له بأن يُبعَث حَيّاً.   

MISS 3