جو عيسى الخوري

المواطنة واستحالة تطبيقها في لبنان

27 آذار 2024

02 : 00

يتنافس العديد من السياسيين والمحلّلين والصحافيين على تبسيط الحل للمشاكل والأزمات والحروب التي تعصف بلبنان، من خلال تكرار فكرة «المواطنة»، التي يعتبرونها عصا سحرية يمكن أن تُعيد للبنان الأمن والاستقرار والبحبوحة. بداية لا بدّ من التعريف سريعاً بالأسس التي ارتكزت عليها المجتمعات المتطوّرة للوصول إلى تحقيق المثالية في المواطنة والتي يمكن اختصارها بثلاثة عناصر: سياسية، مدنية، واجتماعية.

العنصر السياسي قوامه حرية المشاركة في الحياة السياسية لأي مواطن من خلال إعطائه الحق بتأسيس أو بالإنضمام إلى أحزاب وتجمّعات من المجتمع المدني أو من خلال المشاركة في المجالس النيابية. أما العنصر المدني فهو يضمن الحرية الفردية في الإعتقاد والتفكير وحق التملّك والحق في الحصول على العدالة من خلال قضاء نزيه يدافع عن الأضعف شأناً في المجتمع ويحفظ له حقوقه. يبقى العنصر الاجتماعي الذي يرتكز على تأمين الخدمات الأساسية للمواطن كالطبابة والسكن والتعليم من أجل مساعدته على الإنخراط في المجتمع وتحسين وضعه الاقتصادي للوصول إلى الرفاهية الاجتماعية.

باختصار، إنّ أساس المواطنة هو دستور وقوانين تعطي أي مواطن الحق في حكم البلد الذي يعيش فيه من خلال مؤسسات السلطات السياسية والدستورية (الشق السياسي)، إضافة الى إجراءات قانونية تضمن له حقوقه مع الدفاع عن حرية التعبير والمعتقد (الشق المدني)، وتأمين عيش كريم (الشق الاجتماعي). إلا أنّه من أجل تحقيق كل ما ذكرناه، على الدولة أن تكون عادلة كي تضمن المساواة للجميع أمام القانون. فإذا كانت الدولة استبدادية أضحت في أيدي أقلّية ممّا يحرم الأغلبية من إمكانية ممارسة حقوقها. لذلك، هناك ترابط عضوي بين المواطنة والديمقراطية. إن الديمقراطية تعني أن الشعب هو مصدر القرار، إضافة إلى المساواة السياسية والمدنية (كالأحوال الشخصية) بين الجميع بصرف النظر عن الجنس، أو الدين، أو العرق.

وكما للمواطن حقوق كفرد، كذلك عليه واجبات تجاه بيئة تحفّزه على المشاركة البنّاءة والصالحة ضمن المجتمع المدني. من هنا ضرورة أن يتمتع جميع المواطنين بنفس الحقوق. إنّ تخلي الدولة عن القيام بالتزاماتها القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية سيؤدي حتماً إلى اضمحلال الحسّ بالمواطنة مما يدفع الافراد للجوء إلى مرجعيات أخرى (دينية أو سياسية) تؤمّن لهم حاجاتهم، كلّ على طريقته.

استناداً إلى كل ما ذكرناه، هل نجحت الدولة اللبنانية على مرّ العقود في القيام بواجباتها لتطوير حسّ المواطنة عند اللبنانيين؟ والسؤال الأهم، هل أنّ المواطنة أدّت دورها الطبيعي بتطوير حسّ وطني واحد عند جميع اللبنانيين؟ الجواب على السؤالين هو للأسف بالنفي. ولا بد من استعراض بعض الأمثلة التي تظهر أسباب فشل المواطنة في لبنان.

أسباب الفشل

في الشق السياسي، يمكن لبعض اللبنانيين أن يتبؤوا بعض المراكز السياسية أو الإدارية ولا يمكن للبعض الآخر. بعض اللبنانيين يصبحون نواباً عند حصولهم على عدد معيّن من الأصوات والبعض الآخر يلزمهم عشرة أضعاف هذا العدد كي ينجحوا في الانتخابات النيابية. انتماء بعض اللبنانيين المذهبي لا يخوّلهم أن يصبحوا مدراء أو نواباً أو وزراء بغض النظر عن كفاءاتهم العلمية أو خبرتهم كرجال أو سيدات أعمال.

أما في الشق المدني، فمن الواضح أنّ هناك تفاوتاً بين المجموعات، أو المكوّنات الدينية، وتعاطي كل مجموعة مع الأفراد الذين ينتمون إليها. فاللبنانيون يتزوجون ويطلّقون بثماني عشرة طريقة مختلفة، وثمة قوانين متعددة للإرث، واحد لكل طائفة. عند بعض المجموعات يمكن للمرأة أن ترث نفس حصة الرجل بينما عند مجموعات أخرى للمرأة نصف حصة الرجل من الميراث. أيضاً يمكن لرجل ينتمي إلى مجموعة معيّنة أن يتزوّج من إمرأة واحدة أما عند مجموعات أخرى فيمكن لرجل أن يتزوّج من عدة نساء.

لا بد من الإشارة والتأكيد أن كل ما نذكره هو ليس من باب الإنتقاد بل هو توصيف لواقع نعيشه منذ قيام دولة لبنان الكبير التي نتمسك بها. هذا التوصيف يُثبت أنّ حقوق اللبنانيين ليست هي نفسها، بل أن حقوقهم السياسية والمدنية تختلف بحسب انتمائهم الطائفي. وبما أنه علينا أن نحترم خصوصيات كل مجموعة من المجموعات المكوّنة للبنان، لذلك من الاجدى أن نقرّ بأنه لن يمكن للدولة المركزية أن تكون عادلة تجاه المواطنين من خلال قوانين مدنية أو سياسية تساوي بينهم. فالفرد اللبناني يمكن التعاطي معه بعدالة، فقط ضمن المجموعة التي ينتمي إليها، حيث تُطبّق على النساء والرجال قوانين وأنظمة خاصة بهم، ويتنافسون على نفس الامتيازات السياسية، لكن ضمن المجموعة التي ينتمون إليها دون ان يكون للدولة المركزية أي تأثير.

كل ما جرى سرده يبيّن أن المبدأ الأساسي لتحقيق المواطنة السليمة مرتبط بإمكانية تطبيق نفس المعايير على جميع المواطنين دون أي تمييز في ما يتعلّق بالدين أو بالجنس أو بالعرق. أما في لبنان فهذه المبادئ يستحيل تطبيقها لأن العقد، غير المعلن، بين جميع المجموعات الطائفية التي قبلت أن تنضم إلى لبنان الكبير، مبني على فكرة أساسية غير قابلة للتغيير: «نحن لبنانيون لكن لدينا خصوصيات لن نتخلى عنها وسنحافظ عليها ونمارسها ضمن المجموعة التي ننتمي إليها». وهذه سمة المجتمعات التعددية في العالم.

بناءً عليه، لن يكون باستطاعتنا أن نفرض على الجميع أن يتزوّجوا أو يطلّقوا أو يورّثوا بطريقة واحدة. كذلك لن نستطيع، وليس مقبولاً، ان نفرض على مناطق معيّنة أن تسمح بممارسة عادات تُعتبر ممنوعات في ثقافتها أو ديانتها. إضافةً إلى رفض مجموعات التنازل عن بعض المكتسبات السياسية التي تعتبرها ضمانة لحقوقها وحامية لها كمجموعة دينية. كل ذلك يؤدّي الى واقع هو أنّ الحسّ بالمواطنة وبالمواطنية، في لبنان، يختلف بين فرد وآخر بحسب إنتمائه الطائفي.



الحفاظ على الخصوصيات

إن التنوّع الثقافي في أي بلد يجب أن يكون مصدر غنى وليس مصدر أزمات كما هي الحال في لبنان. ما الحل إذاً من أجل المحافظة على هذه الخصوصيات الثقافية مع تطوير مواطنة سليمة عند جميع اللبنانيين؟

إذا استعرضنا تاريخ الدول التعددية والتي نجحت في تطوير مواطنة ومواطنية صالحتين، نستنتج أن الاتفاق على النظام السياسي كان المحور الأساسي الذي ساهم في طمأنة المجموعات الثقافية المتعددة لهذه البلاد. فجميع هذه الدول مرّت بحروب واقتتال في ما بين المجموعات الدينية أو العرقية أو الثقافية المكوّنة لها، لكنها نجحت في إرساء الأمن والاستقرار والبحبوحة من خلال أنظمة إتحادية (فيدرالية) كانت الركيزة الأساسية لتطوير المواطنة الصالحة.

بالنتيجة، لا يمكن تطوير مواطنة صالحة في بلد متعدد الثقافات ضمن نظام مركزي. لذلك، لا إمكانية لإرساء مواطنة صالحة في لبنان الكبير، إلاّ من خلال نظام إتحادي تناقشه وتتفق عليه جميع المكونات اللبنانية.

(*) أمين عام تجمّع «إتحاديون»

MISS 3