ستيفاني غصيبه

"مسارات إبداعية" في المدارس الرسميّة

حين يتحوّل التلاميذ إلى فنّانين

29 آذار 2024

02 : 01

في ظلّ كلّ المعاناة التي تكبّل القطاع العام والمدارس التابعة له، يحفّز مشروع «مسارات إبداعية» القدرات الفنّيّة لدى تلاميذ 13 مدرسة رسميّة، ويدفعهم نحو التعبير عن أنفسهم ومشاعرهم من خلال الفنّ. وهذه السنة، للمرّة الخامسة على التوالي، يطلق متحف بيروت للفن «بما» النسخة الجديدة من هذا البرنامج المموّل من قسم الشؤون الدبلوماسية في السفارة الأميركية في بيروت.


يعتبر «بما» متحفاً جديداً من المقرر إطلاقه في بيروت عام 2026، يُعنى بالحفاظ على الفن اللبناني، وإنتاجه ودعمه. هو عابر للجدران وغير محدود بها، يعيد إحياء أماكن مختلفة من خلال برامج ومعارض تسعى إلى تعزيز التواصل بين الناس، إلى جانب حماية مجموعة كلاسيكية ومعاصرة من التراث اللبناني لتعزيز فرص إنتاج الأعمال الفنية ونشرها بالتعاون مع مبدعين من لبنان والعالم.


وتولى «بما» منذ العام 2017 حتّى اليوم تطوير برنامج «مسارات إبداعية» وتنفيذه، بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي في لبنان وبرعاية السفارة الأميركية في بيروت هذه السنة. ويهدف هذا البرنامج إلى دعم التعبير الفني والمشاركة الثقافية وسط طلاب المدارس الرسمية اللبنانية، وصُمّم بشكلٍ خاص للوصول إلى المدارس الواقعة في ضواحي أبرز المدن اللبنانية والأولاد المنحدرين من عائلات ذات مداخيل منخفضة، التي قد لا تكون مطّلعة على عالم الفن والنشاطات الثقافية.


أمّا المدارس المستفيدة فهي: مدرسة «الأمير شكيب أرسلان المتوسطة الرسمية» في فردان، مدرسة «بسكنتا المتوسطة الرسمية»، مدرسة «كمال جنبلاط الرسمية المتوسطة المختلطة» في الشوف، مدرسة «الدامور المتوسطة الرسمية المختلطة»، مدرسة «جبيل الأولى الرسمية المتوسطة»، مدرسة «برمانا الرسمية المتوسطة المختلطة»، مدرسة «ذوق مصبح الرسمية المتوسطة»، مدرسة «كفرشيما الرسمية المختلطة»، مدرسة «الدورة الرسمية المختلطة» في عكار، مدرسة «راشيل إدة الرسمية المختلطة» في زغرتا، مدرسة «زحلة الجديدة الرسمية المتوسطة المختلطة»، مدرسة «برج حمود الرسمية» ومدرسة «وطى المصيطبة الرسمية المختلطة».





تطوير المهارات الفنية

يشكّل «مسارات إبداعية» ممارسة اجتماعية ومبادرة فنية، انطلاقاً من مشاريع فنية متخصصة يقودها فنانون شباب وناشئون، مانحاً الطلاب من خلفيات اجتماعية وجغرافية متنوعة فرصاً لتطوير مهارات فنية وتوسيع آفاقهم عبر خوض تجارب مبنية على التعاون والمشاركة، كما يزوّد المشاركين بمهارات ناعمة أساسية على صلة بتجارب الحياة الواقعية. ويمتد البرنامج على سنتين أكاديميتَين، وفي حين يشمل 13 مدرسة رسمية في سنته الأولى، يتوسّع ليضمّ 16 أخرى وعدداً من المراكز الاجتماعية في سنته الثانية. أمّا ذروته فتكمن في تنظيم معرض فني يحتفل بأعمال الطلاب.

وفي السياق، تؤكّد مديرة البرنامج ريان رعيدي في حديثها لـ»نداء الوطن» أنّ «هذا المشروع الذي يتوسّع كلّ سنة ليضمّ ثلاث مدارس جدد، يهدف الى إيصال الفنّ اللبناني وثقافته، فلا يتناول بيكاسو وموندريان، بل يسلّط الضوء على كبار الفنّانين اللبنانيّين غير المعروفين حتّى في بلدهم الأم». وشدّدت على أنّ «المدارس الرسميّة لا تولي أهمّيّة كافية للفنون والثقافة، لكنّ التعبير من خلال الفنون يخلق مجتمعاً قويّاً ومتماسكاً»، مضيفةً: «حين نكون في الصفوف مع التلاميذ، نفاجأ بمدى تفاعلهم مع المدرّبين وحماستهم وقدرتهم على توليد الفنّ. وفعلاً أصبحت بعض المدارس تنتظرنا وتتطلع إلى نسخة السنة التالية بعدما تعاونت معنا».


هيلين الخال مصدر إلهام

هذه السنة، يُعَرّف البرنامج الطلاب على الفنّانة اللبنانيّة-الأميركيّة هيلين الخال، إذ جرت العادة أن يتمّ اختيار موضوع أو فنّان معيّن لكلّ دورة، ليكون الإلهام الذي يعتمده المدربّون طيلة فترة التدريب وفي كافّة ورش العمل. والخال هي فنانة رائدة وأستاذة وناقدة فنية، تدعو من خلال أعمالها في مختلف التخصصات واللغات إلى التفاهم الثقافي المتبادل. وتقول رعيدي إنه «بما أنّ دورة هذه السنة نظمت برعاية قسم الشؤون الدبلوماسية في السفارة الأميركيّة، اخترنا أن يكون فنّاناً لبنانيّاً- أميركيّاً هو مصدر إلهامنا. إضافةً إلى ذلك، اخترنا الخال لأنّنا نملك تسع لوحات لها تقريباً في مجموعتنا الفنّيّة». وتابعت: «سيستلهم الطلّاب من أعمالها ليصنعوا بفضل ورش العمل أعمالهم الخاصّة».





مبادرات جماعيّة

لا يمكن إنجاز هذا المشروع من دون مدرّبين يجعلون الفنّ متعة وفسحة أمل في ظلّ الأوضاع الراهنة. وتشير رعيدي إلى أنّ «ليس الفنّانون كلّهم قادرين على تعليم الفنّ الذي يمتهنونه. لذا، كلّ المدربّين من خلفيّة تعليميّة، يعملون في مؤسّسات ويديرون ورش عمل ومبادرات جماعيّة. منهم من يشارك للسنة الأولى، لكنّ الغالبيّة عملت في النسخات السابقة من المشروع لتأمين استمراريّة الأفكار والخبرات بين النسخ».


وهذه السنة، تُقدّم الورش تحت إشراف «ستوديو كواكب»، وابتسام ديب، وإليسا رعد، ومؤسس «منصة الرسوم المتحركة للشباب» فادي سيرياني، وفاديا التنير، وسهى نادر، وروجيه فغالي، وشربل صموئيل عون، حيث يشارك طلاب المدارس الـ 13 في مشاريع إبداعية مثل تحريك الدمى، فن الفيديو، الرسم، التركيب وتقنيات صناعة الورق. وتشكّل هذه الوسائط الفنية أدوات يستعملها الطلاب لاستكشاف مساهمات هيلين الخال المتنوعة والمؤثرة في عالم الإبداع.



من اجواء ورش العمل



جولة على الورش


وفي جولة على المدارس المشاركة، قالت نسرين بدر مديرة مدرسة «وطى المصيطبة الرسمية المختلطة» التي بدأت مع «مسارات إبداعيّة» خلال المدرسة الصيفيّة عام 2020، إنّ «الإدارة تفاجأت بمدى حاجة التلاميذ إلى هذا البرنامج وإلى الخروج من الروتين الدراسي» مضيقةً: «كانت تجربة رائعة، خصوصاً أنّنا بدأنا مع فنّ الغرافيتي. رأينا البريق في عيون الأولاد وكان الجميع متحمّساً للمشاركة. في المرحلة الأولى، اخترنا عدداً معيّناً، فتشجع الآخرون وأصبحوا يطالبون بالانضمام أيضاً». وبعدما لمست الإدارة أهمية هذه الورش قررت عرض الأعمال التي صنعها التلاميذ في المدرسة بعد كل منها، فمثلاً لمّا كان البرنامج يدور حول الفنّ التجريدي من وحي أعمال سمير صايغ، جمعت الإدارة الرسوم على لوح كبير حمل كلّ أسماء المشاركين.


وتكمل بدر حديثها مشيرةً الى أنّ «بعد نهاية الورش أكملنا على عاتقنا بعض النشاطات وسعينا إلى المحافظة على هذه الروح الفنية، لأنّنا لاحظنا أنّ كلّ ما يدور في قلوب التلاميذ أصبح ملموساً على الورق، وما كانت الورش إلّا سبيلاً للترفيه عن مشاكلهم، فتحرّروا من قصصهم الموجعة ولو لبعض الوقت. ومن الحالات التي أثّرت فينا قصّة تلميذ أهله منفصلون، وهو موجود في دار للرعاية، لا يرى أمّه أبداً بينما يلتقي والده مرّة واحدة سنوياً. وقصة تلميذ آخر في الثالثة عشرة من عمره، يُعنّف في منزله...». وأردفت: «لذا، أحد النشاطات الذي نسعى إلى إعادة تنظيمه هو التمرين المسرحيّ، الذي يمثّل فيه الأولاد خلف الستارة. مكّنتهم هذه التجربة من التعبير عن مشاعرهم بطريقة سرّيّة نوعاً ما، فتكلّموا وعبّروا من دون أن يسمع أو يرى أحد... بكلّ بساطة ضحكة الأولاد، بمثابة معجزة نظراً لقصصهم القاسية».


وتمنّت بدر أن «يعمّم «مسارات إبداعيّة» على المدارس بنطاق أوسع، أكان من ناحية زيادة عدد ورش العمل في كلّ مدرسة أو عدد المدارس المستفيدة»، خاتمةً «من حق التلامذة في المدارس الرسميّة أن يحتكّوا بالفنّ والثقافة تماماً كتلامذة المدارس الخاصّة».

ننتقل الى المدرّبة إليسا رعد التي تشارك في هذا المشروع للسنة الثالثة على التوالي، وتدير في النسخة الحالية الورش في زحلة وزغرتا، واختارت أن تركّز على نظريّة الألوان والمجال اللوني التي أولتها هيلين الخال أهميّة كبيرة خلال مسيرتها، وذلك من خلال أربع مراحل: تناغم الألوان واختيارها ومزجها، مع تعلّم تقنيّة جديدة هي باستيل الطبشور (Pastel craie)، فيختبر المشاركون موادّ جديدة ويتعلّمون كيفيّة التكيّف معها لإنتاج عمل فنّي.

وفي حين تشكل هذه التجربة الاحتكاك الأوّل للبعض مع الفنّ، تستعين رعد خلال الورش بطرق عدّة لإدماج التلامذة في هذه المغامرة، فتجمعهم مثلاً في فرق عمل صغيرة، فبالنسبة لها «هذا الأمر أساسيّ، لأنّه من الضروري أن يتواصل الأولاد بعضهم مع بعض خلال حصّة كهذه، فيتمّ حتّى تغيير ترتيب الطاولات في الصف حتّى يتواصلوا ويناقشوا العمل الذي ينجزونه، ولو أنّ المطلوب مهمّة فرديّة. بهذه الطريقة، يتناغم المستوى الفرديّ مع المستوى الجماعيّ». وتتابع: «كذلك، أصنع أجواء تساعد على الابتكار من خلال الموسيقى والصور والفيديوات، لأدخل المشاركين في حالة جديدة وأفصلهم عن روتينهم اليوميّ».

وترى رعد أنّ «ما يفعله «بما» ضروري، وحاجة ماسة في المدارس الرسميّة المهملة في هذا المجال، حتّى في المدارس الخاصّة التي لا تعرّف التلامذة بشكل كافٍ على الفنانين اللبنانيين».



اعمال تلاميذ مدرسة وطى المصيطبة حول سمير صباغ




MISS 3