الدكتور جورج شبلي

لو رُكِّب للبنان أجنحة!

16 نيسان 2024

02 : 00

هذه مقالة مستنِدة إلى اثنتَين: ذكرى بداية حربٍ أساسُها مؤامرة إزالة لبنان لتقوم على أنقاضه فلسطين، في الثالث عشر من نيسان في العام 1975، وثابتة اغتيال المُحتكِمين إلى ما يُسَمّى الدولة، والقانون، والعدالة، وآخرهم باسكال سليمان الذي لم يُستَشهَد على يَد عساكر السّماء.

لقد حفرَت الشّمس في خيال لبنان لطول انتظاره إلى الفَرَج بالسّلام والحريّة، في حين بَلَغَه سواه بقفزة واحدة. ولعلَ موقع بلادنا لم يكن، كما فصّله بعضهم، مميّزاً، ومَعبراً إستراتيجيّاً للغرب إلى الشّرق، وصِلة وصل بين الحضارات، وموطن العلاقة بين الإنسانيّ والإلهيّ، والنقطة الطليقة الواحدة في أوقيانوس مقيَّد... وذهب البعض الآخر إلى اعتبار رقعة لبنان أَعزّ تجليّات الله في الدّنيا من بين أمصارها.

لسنا نُنكر أنّ بلاد الشّمس كانت تغرِّد، مناخيّاً، خارج سرب المنطقة، لكنّنا لسنا نُنكر، في الوقت نفسه، أنّ المنطقة، عقائديّاً، واستراتيجيّاً، لم تضمن للبنان فرادته، واعتبرته لا يُشبهها، إنْ في تطبيق دستور يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وهم ليسوا مجرّد أتباع أو رعايا، وإِنْ في النّظام الديمقراطيّ الذي صان الحريّة، بعيداً عن الشّائع في الطّاعة المطلقة، وطبقيّة العَبد والمَولى، وإِنْ في مبادئ العدالة، ومنها أنّ الحكم للشّعب، خارج التّكليف المتوارَث، وإِنْ بالإنفتاح على الفكر النّهضويّ الخلّاق كجسر عبور إلى التمدّن لبناء طلَّة الوطن على العالَم، بديلاً عن الإنعزال والتَّقوقع الإيديولوجيّ الجاهليّ...

إنّ علاقة لبنان مع الواقع الجغرافيّ القريب لم تعرفْ إلّا سلسلة انتكاسات، والشرّ فيها قليلُه كثير، ولولا النّضال لَأَكل هذا القريب لبنان، ناكِثاً عهد الأخوّة، وإستراتيجيّة العَيب. وبالعودة إلى تاريخ القريب في الزّمن، وهو أَسْوَد الصفحة، نقف على ما يُثبت أنّ ما مرّ، عندنا، من إعصار الشياطين، وذيوع الفِتَن، ورواج التّآمر، وخُطَط الإنتهاك، ولَهيب الإستقواء، كان الهدف منه أَلّا يتصبَّح الوطن بالسّلامة مع كلّ شمس. ومهما قيل عن روابط صيغَت في مدحها خطابات، وأُنفِق في تَبييضها الكثير لإيهام المُعَسَّرين بالمودّة، فهي لم تكنْ إلّا ثوباً مستعاراً يخفي موبقات لا تفنى، وإِنْ اجتهد صانعوها في تمويهها، حتى يُقبَروا.

لقد كتب الكثيرون شِعراً في هذا البلد الرّائع الحُسن، الذي ينهل طيب الحياة من دون أن يتنبّه لغَدر الزّمن، لكنّ الشِّعر، على جَماله، يبقى مجرَّد وثيقة تبيِّن محبّة مُبدِعيه وطنهم، وهذا قَيِّم، لكنّه لا يُزيل الرّماد الذي ذُرَّ في جنباته، بسلوك الكره، وديناميّة الشرّ، وصنع الغَزو، والسَّلخ، وزلزلة الكيان، وسَحق الهويّة... كلّ ذلك جعل الوطن يعيش في خشية دائمة، فلا دَوره ذو الخصوصيّة الرّائدة حصَّنه، ولا تَشارُك ناسه المُختلِفي التوجّه في صيغة أرادها بعضهم نموذجيّة، كسر الطَّوق الذي فرضه التعصّب، ولا كونه ملجأً لمعاقل الجماعات المضطهَدَة، أخلى له مكان التّقدير... من هنا، لسنا نتطرَّف إِن استنتجنا أنّ لبنان لم يكنْ إلّا عالة خافها الأقربون، والأكثر بُعداً، أيضاً، حتى لا تتفشّى حالتها في سَلطناتهم، وغيتواتهم، وإمبراطوريّاتهم، وخِلافتهم، ما يُنَبِّه ناسهم إلى حقوقهم، فيثورون.

لقد نشّأَ المحيط القريب، والأكثر بُعداً، أيضاً، خليط ناس البلاد، على التَطَيّف البغيض، حتى بات شعب لبنان شعوباً غير متجانسة، ومتنافرة نشبت بينها صراعات وحروب، ولم تكن فترات السِّلم إلّا ناراً تحت الرّماد، تنتظر «خوارجيّاً» يحركشها. وأكثر من ذلك، فإنّ هذا الخارج، أيّاً كان اسمه، كان تدخُّله في البلد دائميّاً، ولكنّه تدخّل كارثيّ، يؤلِّب فئة على فئة، وطائفة على طائفة، ومنطقة على منطقة، وأكثريّة على أقليّات، بدافع عصبيّ إثنيّ، أو استراتيجي توسُّعي، أو انتدابي استعماري... وعلى مدار الزّمن، أُقحِم لبنان في مواجهات داخليّة مستمرّة، حامية أو باردة، ولم يتصاعد من اجتماع قَيِّميه، مرّةً، الدّخان الأبيض.

أمّا الحياد الذي يُبعد لبنان عن التكتّلات، وبالتالي، عن النّزاعات، والتوتّر، ويجنّبه الصّراعات والإنزلاق في الحروب، فهو نظام يؤمّن للوطن استقراراً، ويجعله واحة سلام منيعة، ويحمي سيادته واستقلاله. ومع هذا، فإنّ المواقف منه كانت متباينة، فالذين عارضوه، اتّخذوا هذا الموقف بعد أن تلقّوا أمر الخارج، ولمصلحة هذا الخارج، بالذات، والذي تلطّى بالقضيّة الفلسطينية التي باتت شمّاعة يوظّفها كلّ لمصلحته، من دون مصلحة فلسطين نفسها. ونَسأل: ماذا أفاد لبنان من عدم حياده؟ لقد تلقّى العدد الأكبر من الفلسطينيّين الذين تركوا بلادهم، بين العامَين 1947 و 1948، وأمّن لهم المستلزمات الأساسيّة، وكان رأس الرّمح في الدّفاع عن قضيّتهم، لكنّهم انقلبوا عليه، ودفّعوه الثّمن الباهظ على مستوى أمانه، واستقراره، ونموّه، وقدّموا الحجّة لعدوّه ليشنّ حرباً عليه، وصيّروه، بالإتّفاق مع الأشقّاء، ساحة وحيدة لتصفية حساب الصّراع مع العدوّ، كما لتصفية حساباتهم بالذّات. وتكبّد لبنان الخسائر، في البشر والحجر، دون غيرِه من «الغَيارى»، ولمّا يزل.

بعد ملامسة هذا الواقع، بموضوعيّة، وهو واقع مُنزَل، لا خلاص منه، أوليس حريّاً أن نلوم مَنْ مَسْمَرَ لبنان في هذه البقعة اللّعينة، وأن نسعى لتركيب أجنحة له، لننقلَه إلى أيٍّ من أمكنة الجغرافيا بعيداً عنها؟

3