البروفسور أنطونيوس أبو كسم

مستقبل الدولة اللبنانيّة ومصير لبنان

22 نيسان 2024

02 : 00

لا أحد بإمكانه أن ينكر أنّ مستقبل الدولة اللبنانيّة مجهول. إنّ الفراغ الذي يعطّل المؤسسات الدستوريّة يكاد أن يصبح عرفاً، حيث اعتاد المسؤولون أن يمارسوا صلاحياتهم بالوكالة بقوّة وأن يمارسوا صلاحياتهم بقوّة الأمر الواقع، وسط قبول المواطنين، الذين اعتادوا على هذا النهج وتأقلموا معه. والأخطر، أنّ الأحزاب السياسيّة الممثّلة في مجلس النواب، والتي يجب أن تتحمّل مسؤوليّة التعطيل المؤسساتيّ، تساكنت مع الفراغ، وأكسبته شرعيّة مؤسساتيّة عبر تشريع الضرورة، وعبر نظريّة استمرارية المرفق العام وموجب تصريف الأعمال بالمفهوم الواسع.

هيبة الدستور ومصيره

أضحى الدستور كتاباً عادياً، وانتهاكه أمراً عادياً، وليس هناك من يحميه، بل هناك من يختبئ وراءه لتدعيم موقف سياسيّ. أصبحت المؤسسات مُشخصنة، حيث يُستدلّ على المؤسسات الدستورية وبعض المرافق العامّة بأسماء رؤسائها. وهذا، جعل مسألة تطبيق الدستور رهينة مزاجية شخصيّة وكأنّ الدستور وُضِع لخدمتهم ولحماية صلاحياتهم ضماناً لمصالحهم. انكسرت هيبة الدستور لدى الرأي العام، وبدأ الكلام عن أنّ تعطيل المؤسسات سببه سوء النصوص الدستورية وليس المسؤولين المؤتمنين على احترامه. بدأ مشروع السيطرة الحزبيّة والطائفيّة على المؤسسات، وزاد الطمع بالسلطة، وبدأ البحث في الكواليس حول تغيير النظام الدستوري، لتثبيت مكتسباتٍ وتكريس أعرافٍ أصبحت مقبولة بسبب الفراغ المؤسساتي.

الإحتلال الدستوري والمغامرة بلبنان

إنّ التفكير بتعديل الدستور أمرٌ مشروع في نظام ديموقراطيّ، حيث النصوص الدستوريّة غير مُنزَلة. لكن من يطالب بالسرّ والعلن بتعديل الدستور، لم يضمن احترامه، بل مارس صلاحياته باستنسابية واسعة النطاق. ليس هناك دستور مثالي، ولكن ليس من رجال دولة مثاليين، كَثُرَ السياسيّون وندر حضور رجال الدولة. فمن يطمح بالتعديل الدستوري الجذري، لم يحترم الدستور يوماً، ولم يعتد على تطبيقه بحسن نيّة بل عبر العبث به لاحتلال المؤسسات. إنّ الطبقة السياسية التي تُمعن بعدم القيام بالموجبات الدستورية بهدف إطالة أمد الفراغ لإيصال البلد إلى حالة الأمر الواقع، تقوم بمغامرة لا تحمد عقباها. إنّ احتلال المؤسسات الدستورية عبر تعديل الدستور ووضع نظام سياسيّ جديد، سيدمّر لبنان، الذي هو أمّة وليس فقط دولة. إنّ تدمير الهويّة اللبنانية التعدّدية عبر تعديلات مُدَلَّسة قائمة على الديموقراطيّة العدديّة، ما هو إلّا انتهاك للدستور اللبناني القائم على أعرافٍ ومبادئ دستورية لا يمكن إزالتها بمجرّد صفقة سياسيّة تحت الضغط لتوزيع المغانم تكريساً للمحاصصة.

شَرعَنة الديموقراطيّة العدديّة واستغلال الوجود السوري

إنّ اندماج المهجّرين والمهاجرين السوريين يشهد نجاحاً ليس له مثيل، بفضل الدولة اللبنانيّة المستضيفة والتي ترضخ لتعليمات الدول الأجنبيّة تحت شعارات احترام حقوق الإنسان. نفس السلطة، أهانت كرامة أبناء بيروت جرّاء إنفجار مرفأ بيروت، وها هي تُهِين اليوم أبناء الجنوب الذين تهجّروا بسبب النزاع المسلّح مع العدوّ الإسرائيلي. على كلّ حل، أصبح الوجود السوري أمراً واقعاً، ومنح الجنسيّة اللبنانيّة لمهاجرين سوريين سكنوا لبنان منذ العام 2011 أمرٌ أصبح شبه ناجزٍ بالرغم من التصاريح السياسية وبعض القرارات الشعبيّة الموسميّة التي لا تؤدّي إلا للتمييز وتحفيز خطاب الكراهيّة. للتذكير، إنّ توطين الرعايا السوريين في لبنان يشكّل انتهاكاً للدستور اللبناني. فإنّ تغيير شكل النظام الذي يطمح فيه، سيشكّل مناسبة لإلغاء بعض الأحكام المتعلّقة بحظر التوطين والتقسيم والتجزئة. والأهمّ أنّ تغيير النظام القائم على معيار الديموقراطيّة العدديّة دون غيره، يشكّل انتهاكاً للدستور الحالي الذي يَصبو إلى إلغاء الطائفيّة السياسيّة بموجب المادتين 24 و95 منه. إنّ التحضير لمؤتمرٍ تأسيسيّ للإنقلاب على النظام، هو قتلٌ للطائف، واغتيال للميثاق الوطني. إنّ أيّ مؤتمرٍ تأسيسي يهدف إلى وضع نظام دستوريّ جديد مستغلّاً وطأة الوجود السوري الكبير جدّاً كمحفّزٍ لتطبيق معيار الديموقراطية العددية المذهبية دون غيره، سيدمّر الكيان اللبناني، وسيقسّم الشعب اللبناني إلى هويّات مذهبية متعدّدة غير تعدّديّة.

السّلطة والمال مقابل دستور جديد: تجربة دمويّة

تحت عنوان هيمنة المارونيّة السياسيّة، ولد الطائف بالدمّ بعد حربٍ استمرّت خمس عشرة سنة. فبدلاً من التعلّم من أخطاء الماضي، انتقل لبنان بعد الطائف إلى السنيّة السياسيّة والسوريّة السياسيّة والشيعيّة السياسيّة. فمن الظاهر أنّنا سنعود إلى السوريّة السياسيّة، حيث تجاوز عدد الرعايا السوريين في لبنان عدد اللبنانيين. هناك مفكّرون يعتبرون أنّ الوجود السوري يعزّز التعدّدية اللبنانية، ومنهم من يعتبر أن الوجود السوري ذات الأغلبيّة السنيّة هو الحلّ الوحيد لإضعاف الشيعيّة السياسيّة السلاحيّة، ومنهم من يعتبر أنّ هذا الوجود السوري هو دافع لتحجيم المسيحيين وفقاً لعددهم الذي يتضاءل يوماً فيوم، فتنزع منهم أغلبيّة المواقع القيادية العليا في الدولة. كلّ السيناريوات سيّئة، وتُشكّل ذريعة لنزاع مسلّح واقتتال مذهبي. فتهميش الرعايا السوريين وانتهاج العدائيّة تجاههم، سيدفعهم إلى ردّة فعلٍ غير متوقّعة، وسيفرضون أنفسهم كمكوّن لبنانيّ جديد، له الحقّ بممارسة حقوقه السياسية والمدنيّة وصولاً إلى حقّ تقرير مصيره. أمّا دفع المكوّن السوري الجديد إلى مواجهة الشيعيّة السياسيّة السلاحيّة، فستكون مغامرة دمويّة قد تشارك فيها المخيّمات الفلسطينيّة إلى جانب المخيّمات السوريّة، مما يقتل أيّ أملٍ بقيام الدولة أو بإلغاء المذهبيّة السياسيّة.

بسبب تعطيل المؤسسات واحتلالها وتفريغها وإفراغها والسعي لقضم المواقع الاستراتيجيّة، يتقلّص عدد المسيحيّين في الدولة، وهناك حالة انكفاءٍ مسيحيّ عن الدخول إلى الإدارات الحكوميّة على اختلافها، التي أصبحت تشكّل لهم إدارات غريبة وكقطاعٍ فاسدٍ، لا يشجّع الجيل الجديد، حيث الدخول والعمل في الدولة خاضع لمعايير الزبائنيّة. وبذلك، إنّ التقصُّد بترك كرسي الرئاسة شاغراً لفترة طويلة بهدف ضرب هيبة الدستور كخطّة للإنقلاب على لبنان الميثاق وخلق لبنان الدويلة أو الدويلات. إنّ ضمانة تطبيق النصوص الدستورية هم رجال الدولة، وليس شركاء مؤسسة دويلات لبنان لتجارة الحدود والهجرة والسلاح والموارد الطبيعيّة.

إنّ إعادة بناء الدولة، يستدعي طبقة سياسيّة جديدة، تؤمن بدولة القانون وبنهائية الكيان اللبناني. فالحاجة الآن ليس الى تنفيذ مؤامرة تغيير الدستور مقابل مكاسب سياسية وماليّة، بل السعي لتغيير الطبقة السياسيّة الحاكمة. إنّ لبنان لا يمكن أن تُنزَع هويّته عبر تغليب طائفة على طائفة أكان ذلك بالقوّة أم عبر نظامٍ علمانيّ مقنّع، حيث تقوم طائفة معيّنة بحكم البلد عبر ديموقراطيّة علمانيّة خادعة، تخضع فقط لديموقراطيّة العدد.

ما يميّز اللبنانيين أنّهم مجموعة من الثقافات والمدارس الفكريّة القائمة على مجموعة من القِيَم الدينية والإجتماعية، وليسوا مجرّد أعدادٍ مُختَزَلة بشخص الزعيم. فاستمرار الترهيب الدستوري سيؤدّي إلى احتضار لبنان، حيث ستُعرَض أراضيه لبازار التقسيم والبيع بدءاً من أرض الجنوب المحروقة في خضمّ التغيّرات الجيوسياسيّة في المنطقة.

(*) محامٍ دوليّ وعميد كليّة العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة في جامعة الحكمة

MISS 3