الدكتور جورج شبلي

التضامن المسيحي في الزّمن الرّديء

كلَّما أَطَلت النّظر في الواقع المسيحيّ، وفي سلوك الكثيرين من قادَته، كلّما تَوَرَّم اليأس في آمالي. لا أُشير إلى وَضعي النَّفسي إحباطاً، بِقَدر ما أستهلّ مقالتي بِعَرض سريع مُلَخِّص لواقع الحال السيّئ الذي يخيّم على جوّ المسيحيّين في بلدي، أو جوّ أكثرهم من غير المُنتَفِعين، والمتزلِّفين، والوصوليّين، والأنانيّين.

لقد اخترت أن أتحدّث عن مفهوم التّضامن المسيحي، لأنّ رداءة الزّمن الحالي سرَّبَت إلى قلوبنا الحزن، وأشاعت في نفوسنا شَقوة اندحار فرح اليوم الثالث. والأشدّ غرابةً أنّ الذين يتّهمون غيرهم بزلّة أو خطأ، لا يمضي كثيرُ وقت حتى يقعوا، هم ذاتهم، في الزلّة نفسها والخطأ عينه. والأنكى أنّهم يدافعون بالحِجَج الواهية، وكأنّ الممنوع على سواهم مسموح عندهم، وهذا أَبشع محاولة للإقناع.

التضامن، كما يحدّده عِلم النّفس السلوكيّ، هو قيمة أخلاقيّة، وعلاقة حضاريّة تنشأ بين الأفراد، أو المجموعات التي تتّصف بالحسّ الإجتماعي الرّاقي. وهو تَلاقُح، إن حصل، يُثمر عملاً بأكثر من عقل، فيُسهم في بناء حيثية متينة تُعزّز مواكبة التقدّم صوب الأفضل والأحسن والأَرقى. أمّا عندنا ومعنا، فالتضامن ليس سوى أداء إسعافيّ آنيّ، وكاذب في غالب الأحيان، لِرَتق الخروق الفاضحة على مستوَيَي التآزر والإنتصار لقضيّة الحقّ في البقاء.

يَخشى بعض القياديّين مِمَّن يظنّون أنّهم من الصفّ الأوّل، من أن يتحوّل التضامن إلى تَضامُم يوقع ضرراً في كيانيّة مجموعاتهم المتباينة سياسياً أو عقائديّاً، أو على مستوى الخيارات في ما يتعلّق بالإنتماء إلى المَحاور، وفي مسألة النّظام. وهذا ما يمكن أن يؤدّي إلى ذَوَبانيّة أدناها بأعلاها، أو أضعفها بأقواها. وهذه، بحَسب المفهوم النَّظري لمُفرَدَة التّضامن، نظرة مُضَيِّقة لهدفيّة التضامن، والسّاعية إلى سدّ القُصور في اشتراك الجميع، كي لا تسقط الكرامة التي لا يكفلها إلاّ النّاس المفطورون على الإجتماع والتعاون .

إنّ التضامن المسيحي في هذه الحقبة المأزومة من تاريخ الوطن، هو انصراف عن المصالح البائسة، وتحوّل إلى غيريّة عفيفة. وإنّ عدمه، في المقابل، يعني تغليب طابع الجناية على ملفّ الوجود بالذّات، وهو مسؤوليّة يتمادى خطرها حتى يجد المعنيّون أنفسهم مُساقين إلى قفص الإتّهام أمام رأي عام لا يمكنه، في النهاية، إلاّ أن يعبأ بمصيره، ويدرك أنّ التأَلّه محدود المدّة والفاعليّة، وأنّ الشخصانيّة وباء الأَردياء، فينسحب عن بصره الحجاب ليتراجع عنه تأثير الإدّعاءات الفارغة، إن لم نقل الأكاذيب الشعبويّة، فيتبنّى بالتالي مقولة شمشون: عليَّ وعلى أعدائي...

يمكن الجزم بأنّ غالبيّة «المُمَثِّلين» للمسيحيّين ليسوا الأمثل لإدارة مستقبلهم الموعود. فقد تقدّم هؤلاء بأطروحات ومطَوّلات حول تغليب المصلحة المسيحية العامة، ومن دون تهميش لسواهم على مستوى القرار، وما كان ذلك سوى حَجَر رُمِيَ فوق سطح بِركة، أَحدث تَمَوّجات ما فَتِئَت أن تلاشت عندما بلغ الحَجَر القعر وهدأ. إنّ ما نسمعه، اليوم، من اندفاع بعض القيادات المسيحيّة إلى السّعي لتشكيل حيثيّات سياسيّة، أو جبهات معيّنة، تعزل بعض الشخصيّات، والمجموعات، ولدوافع باتت معروفة، هو ضرب من الجهالة لا يؤدّي إلّا لمزيد من التّشرذم القاتل، ولن يقنعنا هذا الإندفاع، إطلاقاً، بأنّ أهدافه مرتبطة بقضايا الوطن المصيريّة، والحرص على الثّوابت، لكنّه يرسّخ، وللأسف، أنّ الحقدَ يتناسخ، والأنانيّة تقود صاحبها إلى اعتبار نفسه من أنصاف الآلهة، فينظر إلى الآخرين من فوق، وكأنّ هؤلاء تحت أَخمَص قدمَيه.

إننا اليوم بالذّات، بحاجة إلى صرخة تُحقّق للحالة المسيحية أمراً مُلزِماً، وهو إعادة لُحمتها المُهاجِرة منذ زمن بعيد، والتي تؤشّر، إن هي استمرّت في الغربة ودأبت عليها، إلى اضمحلال بالفعل لوجود دام بالقوّة. إنّ التَكهّف الرّافض قبول الآخر- وأيّ آخر هو هذا؟ - ليس سوى امتناع إنتحاريّ عن رأب الصّدع بين مكوّنات المسيحيّين، ما يشكّل دَقّ مسمار مسموم في نعش مَن دفع ثمن بقائه وكرامته حَيوات غالية.

إنّ المبادرة العاجلة إلى ضَخّ الحياة في رئة التّضامن، مُلزَمَة الحراك، فلم يعد مقبولاً هذا التشرذم السّرطاني في البنية المسيحيّة، والذي يُعجّل في منحاها الإنحداريّ السياسيّ ثمّ الكيانيّ، وكأنّ هنالك مؤامرة من أَهل البيت، كي لا تتحقّق نقلة إنعاشيّة من واقع الطّين إلى الهواء النّظيف. وهذه حال لم يتمّ استيعابها بعد من جانب كثيرين مِمَّن يُطلقون على أنفسهم لَقَب القيادات النّاشطة، فلم يعد ملتبِساً على النّاس مقتضى وضعها الرّاهن، ولم تعد تستحقّ، بتجاهُلها وأنانيّاتها الموصوفة، وسام الدَّور الرّياديّ.

فيا أيّها القادة، أَسقطوا من مفهومكم نظريّة الإحتكار من جانب واحد، واسْعَوا لتضامن يترسَّخ بتصرّف غَيريّ، لتستحقّوا عند القسمة نصف التّصفيق.