د. منير الحايك

قراءة في رواية "أسوار عين توران" لِـجنى الحسن

26 نيسان 2024

02 : 02

من يقرأ قصة الشاطر حسن أو قصة الشمشون، ومن يتعمّق في ملحمة جلجامش وتنبّؤات زرقاء اليمامة، لا يعير انتباهاً كبيراً للظروف التي حكمت الواقع الاجتماعي والتاريخي حتى نشأت تلك القصص وتناقلتها الأجيال، ولكن المؤكَّد، أنّ من أراد أن تصلنا هذه الحكايات، وهنا اخترت التي تنتمي إلى موروثنا العربي والمشرقيّ، أراد من أجيالنا أن تأخذ العِبَر من تلك القصص، أمّا في رواية «أسوار عين توران» لجنى الحسن (منشورات ضفاف والاختلاف 2023) فإنّك تقرأ واحدة من تلك الحكايات، ولكن على غير العادة، هي حكاية عن واقعنا الذي عشناه وما زلنا نعيشه.

رواية عن مدينة رمزية، عين توران، اعتاد أبناؤها تناول حبّة ثلاث مرات في اليوم، تلك الحبّة التي يحضرها «الرجل الأبيض»، الطبيب الذي يزور القرية ليطمئنّ الى أحوال ناسها، والآغا الذي يحكم المدينة لأنه كان يتمتّع بالقوة والجاذبية في شبابه، ليس إلا، المدينة التي تخبرنا الرواية في مستهّلها بأنها كانت مدينة نموذجية، جنّة غنّاء على الأرض، قبل أن تصيبها اللعنة، فتكون الحبّة هي الحلّ.



تبدأ الرواية بأنّ هيثم لم يقبل تناول الحبّة مهما حاول أهله وزوجته، الزوجة التي تطبخ بحسب جدول عين توران، وتتناول حبوبها بانتظام، هيثم الذي تربطه علاقة بنبيل، صديقه، وهو من أبناء عين توران الذين يعيشون خارج أسوارها، لأن والده استغنى عن أرض وامور أكثر من ذلك مقابل هذا الامتياز. تستمرّ أخبار المدينة بالتطوّر، فتظهر لبنى بائعة الحليب، ويستمر هيثم بمعارضته حتى يقود ثورة ويصبح له أتباع. ومن هناك تظهر رمزية المدينة المكان بشخوصها وأحداثها بشكل واضح وصارخ.

يلجأ الآغا والطبيب إلى جهات خارجية للدعم ضد الثورة، ويتعرّف هيثم من خلال نبيل على جهات خارجية أيضًا لتدعمه في ثورته، إلى أن نصل إلى نهاية الرواية، فتقتل لبنى الآغا انتقامًا لاغتضابه لها، ومن هناك تأخذ الحكاية مجرى الحلّ على غرار الحلول في بلادنا، من خلال مؤتمرات الصلح، والحلول الكاذبة والقبول المقنَّع بالآخر، ليصبح هيثم كعمّه الآغا، وتعود عين توران إلى حبوبها وتعيش أوهام السلم والعدالة والحرية...

الحكاية برمزيتها عادية، والشخصيات عادية أيضاً، رمزيّة المكان يعرفها المتلقّي منذ البدء بالقراءة، فهي لبنان في مكان ما، وهي سوريا في مكان آخر، وهي ليبيا والعراق، وقد تكون فلسطين في نواحٍ عدّة، ولكن ما الجديد الذي قدّمه لنا النص؟

ندخل هنا في تفاصيل الرواية المشبعة بالرموز، وأبدأ مع العنوان، في النص يظهر سور وهميّ يسعى الآغا والطبيب لبنائه حول المدينة ويدفع الناس الضرائب من أجل السور، ذلك السور الذي لا نيّة أبداً لإكماله، ولكنه مصدر الوهم بأنه الحلّ للخوف من الآخر الخارجي الذي لا يعرف الناس عنه الكثير، ولكنّ الأسوار المقصودة لم تكن ذلك السور وحده، وإلا كان لا بدّ للعنوان أن يكون «سور عين توران»، فالأسوار التي يخبرنا بها النصّ هي التي تحيط بالناس، والتي أراد هيثم تهديمها وتخطّيها، والتي تتخطاها لبنى في النهاية بالثأر لشرفها، هي التي قصدتها الرواية، وهي الأسوار المبنية فعلًا والتي تحتاج إلى هدم، وليس ذلك السور/الوهم الذي لم يكتمل بعد، بالهدم الذي تدعو إليه الرواية، يصبح عدم إكمال السور ضرورة، ولكن النهاية، ولواقعيتها، لم تصل بنا إلى ذلك الحلّ.

الإسقاطات التي ترافق الحكاية كثيرة، فالآغا سيكون مختلفًا عند كلّ متلقّ، وإن اجتمع أبناء منطقة أو دولة من دول المشرق على شخصية معيّنة أحياناً، والطبيب أيضاً، وهيثم الثائر الذي غلبته الأنا ونشوة القوة نعرفه أيضًا، ولكن ما الغاية من هذه الخرافة في هذه القصة، لقد سبق وذكرت، الغاية هي حفظ تلك الأحداث خارج حدود النصّ التاريخي والتقرير التلفزيوني والصحافي، فسابقًا كان المنتصر يكتب التاريخ ويريحنا، أما في أيامنا هذه، فأصبحت كلّ فئة لها منابرها وصفحفتها وقنواتها، لذا كان دور المثقّف المبدع، أن يحفظ لنا تلك السردية، كما فعلت جنى الحسن.

يبرز الشيخ الجليل الذي أصبح له أتباع، لتقول لنا الرواية إنّ الدين هو السلعة الأسرع لشدّ العصب، ولكن ألم تكن الحبّة رمزاً صارخاً للطائفية والمناطقية والمذهبية التي حكمت لبنان على سبيل المثال وما زالت تحكمه، الحبّة التي تناولها هيثم في النهاية على منبر الصُّلح، لتطرح الرواية السؤال الأكبر، هل كان تناول الحبة في مواجهة التعصّب الديني حلًّا بالفعل؟

لغةُ النصّ سلسة وسهلة، لا تعقيد ولا تكلّف فيها، قد يعتبرها البعض مبالغ في تبسيطها، ولكنّ نصّاً عن حكاية خرافية في الظاهر، لبلاد ليست موجودة، غايتها حفظ حكاية ما حصل في بلادنا خلال ما مضى من أعوام، قد تقصر وتطول بحسب البلد أو المدينة، كيف يمكن للغتها أن تكون غير ذلك!

الشخصية الإشكالية الرئيسة هي لبنى، الفتاة التي توهِم ببساطها وسذاجتها، والتي تنطق بالحِكَم والفلسفة في نهاية النصّ، برأيي كانت الشخصية الأقوى، فالشخصيات الرئيسة الأخرى كان دورها واضحاً في حِفظ الحكاية والإسقاطات، أما لبنى فكانت شخصية الرواية الفريدة والمتشكّلة بحِنكة، فجنى الحسَن لم تترك لنصّها المشغول من أجل طرح مسائل النقد الاجتماعي والسياسيّ والديني في بلادنا، أن يمرّ من دون أن تكون لقضية المرأة حصّة رئيسة أيضاً.

لا يستطيع المتلقّي أن يأتي بإسقاط سهل للبنى، فقد تكون كامل المجتمع المغتَصبة حقوقه من ناحية، وقد تكون المرأة المظلومة من ناحية أخرى، وقد تكون أيضًا فتاة عادية قامت بما تقوم به أية فتاة قرأنا عنها أو شاهدناها في فيلم ما، قادتها ظروفها بكل بساطة إلى تلك الحلول. ولكن الأكيد، أن لبنى هي تصوير صارخ لصوت المرأة في بلادنا، وخصوصاً المرأة التي استطاعت أن تقرأ وتكوّن ثقافة من خلال قراءاتها في منزل الطبيب، والتي لم تفصح عن ذلك، وبعدها تنطق بكلّ نصائحها لهيثم في النهاية، الأمر الذي يكاد المتلقّي أن يقرّر بأنه مأخذ على النصّ أن تنطق لنبى البسيطة بكلام عميق وتنصح هيثم المتعلّم والقائد الثوري، إلّا أن خيوطًا كان يعطينا النصّ بعضاً من أطرافها مع كلّ ظهور للبنى، عندما نعود إليها، نعرف أنّ غاية الكاتبة كانت واضحة منذ البداية وكان التمهيد موجوداً.

إنها رواية ضرورية، كتبتها روائية صاحبة همّ لما يجري في بلادها، طرحت أسئلة وتركتها مفتوحة، بواقعية صارخة، قررت أن تقدّم نصّاً مختلفاً عما تبناه كتّاب الرواية الحديثة اليوم في أثناء تصويرهم واقع بلادهم المأزومة وتقديم رؤاهم وأسئلتهم ونقدهم... فلجأت إلى الخرافة والأسطورة، لتقود المتلقّي إلى حرية مطلقة في أن يختار أبطال روايتها الحقيقيين، وأن يُسقِط ما يراه مناسباً من إسقاطات، وهنا تكمن فرادة الرواية وقوّتها.

MISS 3