"البطولة ليست في إضعاف البلد".. المطران عودة: لبنان بحاجة إلى تضافر الجهود

12 : 43

بمناسبة إثنين الباعوث وعيد القديس جاورجيوس اللابس الظفر، ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة صباح اليوم الإثنين خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس بحضور حشد من المؤمنين.


بعد الإنجيل المقدس ألقى المطران عودة العظة التالية: "المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للّذين في القبور. أحبّائي، لقد احتفلنا البارحة بعيد الأعياد وموسم المواسم، بقيامة مخلّصنا من بين الأموات، أمّا اليوم فتنبعث بشرى القيامة بكلّ لغات العالم، فتنقلب لعنة برج بابل الّتي فرّقت الشّعوب إلى بشارةٍ قياميّةٍ تجمع الكلّ إلى اتّحادٍ واحدٍ، في أحضان المسيح القائم. لذلك نقرأ، في نهاية القداس، إنجيل القيامة بلغاتٍ متعدّدة. سمعنا، اليوم مقطعاً إنجيليّاً يتحدّث عن شهادة النّبيّ يوحنّا المعمدان بالرّبّ يسوع التي تعلّمنا الثّبات في الإيمان فلا نخاف وعيد المضطهدين. شهادة المعمدان مهمّةٌ جدّاً لأنّه يصل بين العهدَين القديم والجديد، أي بين النّبوءات وتحقيقها. لم يفهم اليهود ما قاله النّبيّ يوحنّا، ولم يدركوا حقيقة المسيح، فأماتوه. لذلك، تضع الكنيسة أمامنا شخص المعمدان في بداية أسبوع التّجديدات، دحضاً لادّعاءات اليهود، وتأكيداً على أنّ الّذي صلبوه قد قام وأمات الموت، وهذه بذاتها دينونةٌ لهم لأنّهم رأوه وعايشوه ولم يصدّقوا الحقيقة متمسّكين بأضاليلهم. لا يقف الأمر عند اليهود، بل نجد تلاميذ المسيح أيضاً يجهلونه، لذا نسمع في هذا الأسبوع تذكير الربّ بما قاله للتلميذين اللَّذَين التقاهما، بعد قيامته، على طريق عمواس ولم يعرفاه: "يا قليلي الفهم وبطيئي القلب، أما كان يجب على المسيح أن يعاني تلك الآلام فيدخل في مجده؟".


وقال: "هذا التّذكير موجّهٌ أيضاً إلى بعض المعمّدين على اسم المسيح، الّذين يتناسون الربّ أحياناً ويسعون وراء الدّنيويّات الزّائلة، فيحتاجون تذكيراً بأنّ الرّبّ هو خالق كلّ الأشياء وعلينا أن نشكره ونلتصق به، لأنّه كنزنا الحقيقيّ الّذي حصلنا عليه عندما خرجنا من جرن المعموديّة. لذلك لا فضل لمسيحيّ على آخر إلّا بثبات إيمانه بالمسيح والتزامه شؤون الإنسان. فالمسؤول مؤتمنٌ على الشعب، والطبيب على المريض، والأستاذ على الطالب وكلّ واحدٍ منّا على أخيه الإنسان. المسيحيّ الثّابت في إيمانه يسعى دوماً إلى القداسة، الّتي هي تحقيق القيامة من موت الخطيئة إلى حياةٍ لا تفنى مع الرّبّ. القدّيس العظيم في الشّهداء جاورجيوس، الّذي نعيّد له اليوم، والّذي يتشفّع بمدينتنا، وقد سمّي عددٌ من كنائسنا باسمه، واتّخذناه شفيعاً حارّاً لمستشفانا وجامعتنا وبيت أحبّائنا المسنّين، نظر إلى العذابات كأنّها هباءٌ، لأنّ إيمانه بالمسيح القائم كان ثابتاً لا يزعزعه خوفٌ أو ترهيبٌ، لذلك سمّي لابساً الظّفر، وصار مثالاً لنا لنظفر على الشّيطان المتربّص بنا عبر الكثير من الحيل والمطبّات. يأتي عيد القدّيس جاورجيوس فصحيّاً، فنفهم أنّ حضور المسيح في حياتنا يجعلها قياميّةً، لذا المطلوب منّا في هذا البلد أن نفسح المجال للرّب لكي يعمل ويخلّصنا، لأنّ الخلاص لا يأتي عبر البشر. معظم البشر ينجرّون وراء غاياتهم ومصالحهم. حتى إيمانهم قد يكون أحياناً وسيلةً للوصول إلى الغايات والمصالح المؤقّتة الزّائلة".


وتابع: "بيروت، الّتي يتشفّع بها القدّيس جاورجيوس، قامت من تفجيرٍ طال النّفوس والأجساد والممتلكات بفضل إيمان أبنائها الصادق، وعزيمتهم على الوقوف والمثابرة رغم الضيقات. مستشفى القدّيس جاورجيوس الجامعيّ مثلاً، هذا الصّرح الّذي هدّمه عصف التّفجير وأخرجه عن العمل للمرّة الأولى في تاريخه، منذ قرنٍ ونصف قرن، يعود شيئاً فشيئاً بهيّاً زاهياً ببركة الرّبّ، وشفاعة شهيده الظّافر، وإيمان العاملين فيه من إداريين وأطباء وممرّضين وموظفين بأنّ الربّ لا يترك محبّيه، والخدمة الصادقة والإنتماء الحقيقيّ والعطاء بلا هدفٍ يكافئها الربّ العالم مكنونات القلوب. هذا ما حدث أيضاً في مؤسّساتنا، ما يدلّ على أنّنا لا نؤمن إلّا بالله القادر على إقامتنا من تحت الرّماد، من أيّ نوعٍ من الميتات الّتي يختار الشّرّير أن يجرّبنا بها. القديس جاورجيوس الذي كان قائداً للجيش الرومانيّ لم يلتفت إلى منصبه أو منافعه الخاصة عندما قرّر خدمة ملك الملوك، الرّبّ يسوع المسيح. لذا هو يقف اليوم مثالاً أمام كلّ مسؤولٍ وزعيم، أمام كلّ طبيبٍ وممرّضٍ وموظفٍ ومعلّمٍ وعامل، يحثّهم على التعالي على المنافع والمكاسب الخاصّة لقاء خدمتهم الربّ يسوع من خلال خدمة إخوته الصغار".


أضاف: "كثيرون شكّكوا بقيامة لبنان واللّبنانيّين، لكنّهم يفاجأون مراراً وتكراراً بالعزم اللّبنانيّ على النّهوض ونفض الغبار والسّير إلى الأمام. بلدنا يحتاج إلى من يؤمن به كملجأٍ آمنٍ لأبنائه، كمظلّةٍ واقيةٍ وحضنٍ يحمي، وهذا يحتاج إلى عملٍ دؤوبٍ لإعادة الثّقة إلى نفوس الّذين هاجروا منه، كي يعودوا وينهضوا به، عوض تشجيع الموجودين على الهجرة الموسميّة أو الدائمة. الخطوة الأولى في مسيرة إعادة الثقة هذه أن يؤمن اللبنانيون، والمسؤولون والزعماء أوّلاً، بأنّ لبنان هو وطنهم الوحيد وأنّ واجبهم المحافظة عليه، وصون حدوده، والتشبّث بسيادته مهما كبرت المغريات، واحترام دستوره، وتطبيق قوانينه على كلّ الموجودين على أرضه، لا العمل بمنهج التعطيل والتّأجيل والتّمديد والتّجديد، الذي يضعف الأمل ويزيد اليأس ويدفع من تبقّى من أبنائه إلى الهجرة. لبنان بحاجةٍ إلى تضافر الجهود، لا إلى تبادل التهم والمسؤوليّات. البطولة ليست في التراشق بالتهم، وإضعاف البلد وتعطيل مؤسّساته واستغلال خيراته، أو وضع خططٍ لا تطبّق، وليست في ترهيب القضاء وإخفاء الحقيقة بتعطيل التحقيق في تفجير بيروت، وليست في شنّ الحروب. البطولة تكون في الإعتراف بسبب الأزمة وفي تحديد مسببيها، وفي تظهير كيفيّة الخروج منها، وفي اتخاذ القرار الجريء بقول الحقيقة ولا شيء غيرها".


وختم: "في هذا اليوم المبارك نحن مدعوون إلى تجديد كلّ كياننا، وإلى نشر بشرى القيامة أينما حللنا، وإلى السعي الدائم نحو الحق والخير، والمحافظة على وجود الرّبّ في كلّ زاويةٍ من زوايا حياتنا الأرضيّة، لكي نرث الملكوت السّماويّ، آمين".

MISS 3