يوسف مرتضى

طلاب الجامعات الأميركية ينتصرون لوقف الحرب في غزة

9 أيار 2024

02 : 00

بعد مرور أكثر من 200 يوم على بدء جرائم الكيان الصهيوني في غزة والضفة الغربية واستشهاد أكثر من 34 ألف فلسطيني معظمهم من الأطفال والنساء، فجّر الطلاب في العديد من الجامعات الأميركية انتفاضة واسعة للضغط على إدارة جو بايدن لوقف الحرب وتحقيق السلام وإنهاء الإبادة الجماعية في غزة. وقد شملت التظاهرات المناهضة للصهيونية، أهم الجامعات في الولايات المتحدة الأميركية ومنها: هارفارد، نيويورك، ييل، كولومبيا، ماساتشوستس، إيموري، ميشيغان، براون، همبولت بوليتكنيك، بيركلي، جنوب كاليفورنيا، تكساس، مينيسوتا... وتمددت إلى العديد من الجامعات في كندا وفرنسا وبريطانيا وأستراليا.

تلك التظاهرات غير المسبوقة المنددة بعمليات القتل الجماعي ضد الفلسطينيين، تذكرنا بمعارضة طلاب تلك الجامعات للحرب الأميركية في فيتنام، التي نجحت فعلاً في جعل الرئيس نيكسون يستجيب لها وأوقف الحرب في العام 1975. انطلقت أول مسيرة طلابية احتجاجاً على المساعدات المالية والعسكرية الأميركية للكيان الصهيوني في الحرب على غزة، من جامعة كولومبيا. الجامعة التي كانت في الستينيات هي البادئة لموجة الاحتجاج ضد الحرب الأميركية في فيتنام.

والجدير بالذكر، هو أنّه في ستينيات القرن الماضي، نشأت حركة طلابية في الولايات المتحدة للمطالبة «بحرية التعبير» في الحرم الجامعي، ولكن مع اشتداد تورط البلاد في حرب فيتنام، أصبحت مناهضة الحرب الهدف الرئيسي للاحتجاجات الطلابية. وأدى إنفاق أميركا الضخم على المغامرات العسكرية في زيادة مذهلة في عجز الموازنة وتدهور الأوضاع الاقتصادية داخل البلاد، الأمر الذي زاد من حدة السخط الشعبي على الإدارة الحاكمة وفي المقدمة منهم الطلاب.

لقد عبّرت حركة الطلاب في الستينيات من القرن الماضي، عن نضج والتزام هذه الشريحة من المجتمع الأميركي بقضايا تتجاوز مصالحهم الشخصية، وأحدثت تغييرات لا تزال مرئية في أميركا رغم مرور أكثر من نصف قرن على انطلاقتها، ما يؤشر إلى أنّ الصروح الجامعية في أميركا قد شكّلت على الدوام مصنعاً لإنتاج القيم الأخلاقية والالتزام بحقوق الإنسان.

التاريخ يعيد نفسه

ما أشبه اليوم بالأمس، حيث أن الدوافع نفسها مضاف إليها الإجرام الصهيوني الدموي في غزة والضفة الغربية، الذي أشعل ثورة الغضب في صفوف طلاب جامعة كولومبيا في منهاتن والتي توسّعت شراراتها إلى عشرات الجامعات في الولايات المتحدة والعديد من البلدان الأخرى في الغرب تحديداً تلك المتعاطفة تاريخياً مع إسرائيل.

والملفت أن تقف بمواجهة تلك الحركة النبيلة، وبما يتناقض مع القوانين المرعية الإجراء، إن كان في أميركا أو في فرنسا وبريطانيا، آلة القمع الحكومية المدفوعة بتأثيرٍ من اللوبي الصهيوني في قرارات وسياسات الإدارة الأميركية وعددٍ من البلدان الأوروبية أيضاً، وتتصدى لحركة الطلاب، حيث بلغ عدد المعتقلين ممن شاركوا في الاعتصامات والاحتجاجات المناوئة للعدوان الإسرائيلي على غزة في أميركا وحدها ما يقرب من 1500 طالب، وتعرّض العشرات بينهم للضرب والتعنيف والتهديد بالطرد من الجامعة. وهكذا أيضاً تعرّض الطلاب المنتفضون في العديد من الجامعات الأوروبية.

إن نضال طلاب جامعات أميركا اليوم لا يمثّل استثناء في حد ذاته، بل هو سليل إرث تاريخي من نضال طويل عرفته الولايات المتحدة منذ بداية القرن الماضي، واستمر بلا توقف طوال العقود الماضية، تزيد حدته أو تخفت طبقاً لعوامل عدة، داخلية وخارجية. ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، أصبح الحراك الطلابي جزءاً من حركة الحقوق المدنية الساعية لإلغاء نظام الفصل العنصري والتفرقة بين البيض وغيرهم من الأميركيين الآخرين، وعلى رأسهم السود الأفارقة.

سياسة الفصل العنصري

لقد ارتبطت نشأة الحركة الطلابية المعاصرة بإلغاء سياسة الفصل العنصري في المدارس والجامعات الأميركية عام 1954. وحمل الشباب الأسود عبء العمل على تنفيذ قرار المحكمة العليا بعدم دستورية منع الطلاب السود من الالتحاق بأي مدرسة أو جامعة حكومية. ومثّل احتجاج طلاب جامعة كاليفورنيا بيركلي في بداية عام 1964 على قيود الجامعة وتضييقها على الأنشطة السياسية وحرية التعبير خلال اشتعال حركة الحقوق المدنية، وبدء حقبة حرب فيتنام، محطة مهمة في تاريخ الحراك الطلابي. وسنّت الجامعات العامة في كاليفورنيا العديد من اللوائح التي تحد من الأنشطة السياسية للطلاب. وشهدت بيركلي اعتصامات وتظاهرات صغيرة تصاعدت إلى سلسلة من التجمعات والاحتجاجات الواسعة النطاق للمطالبة بالحقوق الدستورية الكاملة في الحرم الجامعي. وألقت الشرطة المحلية في حينها القبض على نحو 800 طالب نتيجة لذلك. لكنها اضطرت في النهاية للرضوخ لمطالب الطلاب.

إن الاحتجاج الجامعي الأكثر قوةً وحجماً ضد الحرب في فيتنام كان في جامعة كينت الحكومية بولاية أوهايو في أيار 1970. وبعدما بدأ الطلاب الاحتجاج على حرب فيتنام والغزو الأميركي لكمبوديا في حرمهم الجامعي في الثاني من أيار من العام نفسه، فتح الحرس الوطني النار على بحر من المتظاهرين المناهضين للحرب، وقتل 4 طلاب. وبعد أيام قليلة، قُتل طالبان من السود الأفارقة بجامعة ولاية ميسيسبي على يد «البوليس الأبيض» بعد احتجاجهم على الظلم العنصري والتنمر داخل الحرم الجامعي. وكان تأثير إطلاق النار دراماتيكياً، وأدى إلى أول إضراب طلابي عام في تاريخ الولايات المتحدة.

قواسم مشتركة

وتَجمع احتجاجات اليوم في الجامعات الأميركية المؤيدة للفلسطينيين قواسم مشتركة كثيرة مع حركة الاحتجاجات المناهضة للفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والتي عرفتها الجامعات الأميركية في ثمانينيات القرن الماضي، حيث عمل الطلاب على بناء قوتهم داخل الحرم الجامعي، وكونوا مجموعات ضاغطة على جامعاتهم. ونتج عن هذا الموقف للطلاب نجاح حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات الأميركية من نظام الفصل العنصري، والتي بدأت بالجامعات ثم تبنتها الحكومة الفدرالية لاحقاً، مما ساهم في تسريع وتيرة سقوط النظام العنصري في جنوب أفريقيا.

وكانت مطالب الطلاب حينذاك تقترب من الكثير مما يطالب به الطلاب اليوم المحتجون على إدارات جامعاتهم، في أن تسحب استثماراتها من الشركات التي دعمت الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أو استفادت منه، وحيث يطالبون اليوم بسحب استثمارات جامعاتهم من الشركات الإسرائيلية. وبالفعل وتحت وطأة الضغط الطلابي، سحبت 155 جامعة استثماراتها في نهاية المطاف. وفي عام 1986، رضخت الحكومة أيضاً لضغوط الطلاب وتبنت سياسة سحب الاستثمارات. فلماذا لا ننتظر أن يتحقق ذلك اليوم وترضخ الجامعات لمطالب الطلاب المنتفضين رغم ما يرافق ذلك من عمليات قمع واعتقال؟

كانت جامعة كولومبيا في قلب الحركة الطلابية منذ منتصف القرن الـ20 وإلى اليوم. وقاد طلاب تنظيم «التحالف الطلاب من أجل جنوب أفريقيا الحرة في جامعة كولومبيا» الحراك الطلابي. وكانت هذه الجامعة واحدة من أوائل الكليات التي سحبت استثماراتها من التعامل مع جنوب أفريقيا وحذت الجامعات الـ155 الأخرى حذوها.

الخلاصات

وما يعطي الأمل بإمكانية نجاح هذه التحركات الطلابية في الضغط اليوم على إدارة بايدن لوقف الحرب في غزة هو أن قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي باتت قضية أميركية داخلية وتشكّل عاملاً ضاغطاً في الحسابات الانتخابية الرئاسية، حيث أنّ الانقسام حول هذه القضية يمدد إلى جسم الحزب الديمقراطي نفسه. ومما لا شك فيه أنّ تمرّد طلاب الجامعات الأميركية يكتب فصلاً جديداً في التاريخ الأميركي الحديث، وأهم خلاصاته:

1- ثبت أنّ الجسم الأساسي لطلاب الجامعات في أميركا هو الضمانة في تصويب انحرافات الإدارة السياسية في ممارساتها عن القيم الإنسانية والأخلاقية التي تروج لها بينما تمارس نقيضها، استجابة لمصالح القوى النافذة والتي يمثّل اللوبي الصهيوني عصبها الأساسي في دعمها لمجازر الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني.

2- مما لا شك فيه أنه، كما أثارت الجرائم ذات الطبيعة النازية التي ترتكبها القوات الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين، الإدانة الواسعة في معظم بلدان الغرب، وتؤدي إلى انقلاب صورة التعاطف مع الصهاينة التي شُحن بها المجتمع الغربي، على خلفية التعبئة التاريخية لهذه المجتمعات بسبب «الهلوكوست»، يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة اليوم تحولاً في الثقافة السياسية الأميركية والغربية.

3- يسلّط الحراك الطلابي الداعم لحرية الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، الضوء على زيف ادعاءات الإدارات الأميركية المتعاقبة وتحديداً إدارة بايدن اليوم عن حق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة. كما يفضح كذبة الغرب عن إسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهي ترتكب المجازر الدموية، وتمارس أبشع الجرائم المصنّفة ضد الإنسانية، فضلاً عن سياسة التعتيم عن حقائق جرائمها عبر القتل العمد للصحفيات والصحافيين في غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان، أو إقفال مكاتبهم كما فعلوا مع محطة الجزيرة.

4- إن هذا الحراك الطلابي في أميركا والغرب والآخذ بالتوسع في العديد من بلدان العالم، حاملاً راية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لا يمكن إلا المراهنة عليه في التغلب على جميع محاولات إجهاضه، ليطلق دينامية جديدة في العلاقات الدولية، بدءاً من احتمال نجاحه في فرض وقف الحرب على غزة.

MISS 3