عيسى مخلوف

وقفة من باريس

حتّى لا تموت الثقافة أيضاً

15 آب 2020

02 : 00

الكوارث المتلاحقة التي حلّت بمدينة بيروت منذ خمسة وأربعين عاماً حتّى اليوم، وصلت أخيراً إلى الانفجار الكبير الذي جعل المدينة تبحث عن نفسها بين الأنقاض. بالإضافة إلى الخسائر البشريّة، أدّت الكارثة إلى خسائر مادّية كبيرة طالت العمران والأبنية التراثيّة القديمة ومرافق ثقافيّة وفنّيّة تأتي من ضمنها المتاحف، من المتحف الوطني إلى متحف سرسق ومتحف الآثار في الجامعة الأميركيّة، كما طالت بعض الفضـــــاءات الثقافيّة والغاليريات.

حيال هذا الواقع، بدأت تتحرّك بعض المؤسّسات الثقافيّة الغربيّة، ومنها مراكز ومتاحف فرنسيّة، من أجل تقديم الدعم لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الإرث الفنّي والثقافي. وهذا ما اقترحه "مركز جورج بومبيدو" خصوصاً في ما يتعلّق بترميم الأعمال الفنّيّة المتضرّرة في متحف سرسق الذي تعرّض لتصدّعات في عمارته الجميلة المميّزة، وتضرّرت فيه أعمال فنية عدّة تتجاوز الأربعين عملاً. وكان هذا المتحف قد فتح أبوابه مجدّداً منذ خمس سنوات فقط بعد عملية تجديد كلّفت ملايين الدولارات. مدير "المتحف الوطني للفنّ الحديث" في باريس برنار بليستين أوضح أنّ هناك روائع فنية يتضمّنها متحف سرسق يمكن ترميمها في فرنسا، أمّا بعضها الآخر فيتعذّر إصلاحه. من جانبه، أطلق "التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع" نداءً للتضامن مع بيروت، وقد تجاوبت معه مؤسّسات ثقافية تُعنى بالثقافة وحماية التراث، ومنها، على سبيل المثال، "مدينة العمارة والتراث" في باريس، ومعهد التراث الوطني، ومعهد العالم العربي، والمعهد الفرنسي للشرق الأوسط، ومتحف الحضارات الأوروبية والمتوسّطية، ومتحف اللوفر، بالإضافة إلى مؤسّسات دوليّة مثل منظّمة اليونسكو التي تسعى إلى تحديد سبل مساعدة المجتمع الدولي للبنان في جهوده لمواجهة الدمار وصيانة تراثه المهدّد في بيروت.

من أهداف هذا التحرّك إعادة تأهيل المكتبات والمتاحف والمباني التاريخيّة المتصدّعة وحمايتها لعودة الحياة إليها. لكن، مقابل السعي إلى عمليّات الترميم والتأهيل والاهتمام بالتراث اللبناني الذي تضرّر بشدّة، ودُمّر قسم منه بالكامل، خرج من أوكارهم صيّادو الفُرَص، ومنهم من ينتمي إلى ناهبي البلد وشعبه، لشراء البيوت التراثيّة المهدّمة، كما لا تزال رموز الخراب في موقع السلطة، وهي لن تحيد بسهولة عن طريدتها، تمعن في تمزيق أشلائها وتَقاسُم ثوبها الممزّق المشتعل.

السؤال المؤلم والمحيِّر الآن: كيف ستبدأ إعادة الإعمار وحفلة النَّهش لم تنتهِ بعد؟ سؤال تستتبعه أسئلة أخرى أوّلها: أيّ إعمار هو هذا وعلى رأس الهرم المُوكَّلون بالدمار؟ ثمّ إنّ الحياة الثقافية التي تميّزت بها مدينة بيروت بين الستينات ومنتصف السبعينات من القرن الماضي وكانت أغنى حقبة في تاريخ لبنان الحديث، من يعيد الاعتبار إليها ويرمّمها، وأمراء الطوائف الذين هجموا عليها كالجراد ما زالوا يفتكون؟ بيروت التي كانت تدافع عن حرية التعبير وتحتضن الهاربين من أنظمة الاستبداد، وأقصد بهم هنا الكتّاب والفنانين والمفكّرين، وهم جزء لا يتجزأ من مشهدها الثقافي، هذه البيروت ألم تتعرّض هي أيضاً إلى سياسة كمّ الأفواه والوقوف ضدّ الرأي الآخر المختلف، وقد دفع الكثيرون فيها حياتهم من أجل ذلك؟

لا أمل إلاّ بالتغيـــير، تغيير النظام والمجتمع معاً، والخروج من الأسر الطائفي والبحث عن أسبابه كلّها، وإلاّ سيبقى البلد لقمة سائغة بين أنياب اللصوص والسماسرة وأبنائهم من بعدهم، يتاجرون به ويأخذونه من كارثة إلى أخرى بلا تعب ولا ملل. يقتلعون ذاكرته ويلغون مستقبله، ومَن يعترض عليهم يتخلّصون منه ويدفعونه دفعاً نحو الهرب. إنّها معركة حياة أو موت بدل هذه النهاية المتواصلة، البطيئة والمُذِلّة. انفجار المرفأ ليس تفجيراً لبيروت فحسب، بل أيضاً لما تجسّده المدينة من تطلُّع وفكرة وحلم، وذاك الهامش الذي أصبح يوماً ملاذ الأحرار وملتقى المبدعين، وهو الوجه الحقيقي والمُبتغى للعاصمة لا وجه القَتَلَة وتجّار السياسة.ثمّة من لا يزال يردّد، من باب الأمل والعزاء، أنّ الانبعاث يأتي بعد الموت وأنّ طائر الفينيق المحترق يولد دائماً من رماده. لكنّ هذه الأسطورة لم تعد تنفع في لبنان الذي تحتلّه من الداخل عصابة لا حدود لجَهلها وإجرامها، وحين تتحوّل حياة شعب بأكمله إلى طريق جلجلة وسلسلة آلام لا تنتهي.


MISS 3