عيسى مخلوف

الثمرة التي هي محور كلّ شيء

26 أيلول 2020

02 : 00

مكتبة جُوسُّومْ، غاليري فيفيان، مطلع القرن التاسع عشر

صحيح أنّ وباء كورونا ألحق ضرراً كبيراً بالمجال الثقافي وترك أثره على الفضاءات الثقافيّة من معارض ومتاحف ومسارح ومكتبات، وعلى دور النشر ومَرافق أخرى، لكن الصحيح أيضاً أنّ هذا المجال كان يشهد في العقود الأخيرة تحوّلاً جذرياً بلغ الذروة عشيّة وصول الوباء.

منذ قرابة الربع قرن، حذّر عدد من المفكّرين والكتّاب والبحّاثة ممّا يمكن أن يشكّل خطراً على الثقافة، وفي مقدّمة هؤلاء عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو الذي درس تحوّلات الثقافة في الغرب وقدّم توصيفاً دقيقاً لما آلت إليه الحياة الثقافيّة نهاية القرن العشرين وانعكاسات العولمة عليها، وكذلك التقدّم التكنولوجي واستعمالاته. ولاحظ بورديو أنّ الاستقلالية التي توصّل إليها بصعوبة إنتاجُ الثقافة وتداولها، حيال الشروط الاقتصادية، تجد نفسها مهدّدة بسبب المنطق التجاري الذي بات يفرض نفسه في جميع مراحل إنتاج السلع الثقافية وتوزيعها وتداولها. لذلك أصبحت الثقافة سلعة كبقيّة السلع. وبحسب المنطق التجاري، لا بدّ من أجل الوصول إلى أكبر نسبة من المستهلكين أن تكون "السلعة" الثقافية عاديّة ومبتذلة وأقرب ما تكون إلى حفلة إلهاء وتسلية وتهريج. بل أصبح الابتذال، في عرف هذا المنطق، قيمة قائمة بذاتها، وهناك من يشجّع عليه ويدافع عنه ويعمل على تسويقه كماركات عالميّة على غرار "كوكاكولا" و"ماكدونالدز". العالم في يد اللاعبين الكبار، والآداب والفنون جزء من هذا العالم، يطوّعونها ويتلاعبون بها ويحوّرون معناها الأصلي. أما الذين يتكلّمون باسم الثقافة اليوم، أسيادها ورُعاتها، فهم أصحاب المال والنفوذ، وموظّفو الثقافة والفنّ، وراسمو القوانين والقواعد الجديدة للاجتماع البشري.

في موازاة هذا الواقع المستمرّ، صدر مؤخّراً في باريس كتاب جديد بعنوان "الحِداد على الأدب" ويحمل توقيع باتيست دوريكبور الذي يراقب أحوال الأدب والفنّ، ويرصد ما لحق بالتعليم الجامعي والبحث العلمي والمؤسّسات الثقافية والإعلام، وماذا حلّ بالفلسفة والفكر والتفكير، وبصناعة الروايات واستهلاكها، بالإضافات إلى إبداعات أخرى، وكيف أصبحت كلّها لعبة في يد رأس المال والتجارة ومنطق السوق.

الأدب اليوم هو الرواية، والرواية الناجحة هي التي تسجّل أرقام مبيعات عالية. هذا النوع من الأدب الرائج لا تتطلّب قراءته جهداً ولا ثقافة. ما يحدّد أهمّيّته وشهرته هو، في الغالب، قيمته الشرائية لا الجمالية والفنية. التجارة، هنا، هي الأساس بعدما أصبحت الروايات صناعة قائمة بذاتها في الغرب. صناعة تَستخدم قنوات محدّدة وجيوشاً من المتواطئين، من النقاد ووسائل الإعلام وسوق النشر إلى معارض الكتب والمهرجانات والجوائز. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ بعض الأعمال الروائية التي توصَف، في بعض وسائل الإعلام العريقة، بأنها خارقة ورائعة ومتميّزة، هي في الواقع، أقلّ من عاديّة ولا تقدّم أيّ إضافة. لكن، إذا كانت الاعتبارات التي تجعل هذه الرواية تصل وأخرى لا تصل اعتبارات غير أدبية في معظم الأحيان، فهذا لا يعني على الإطلاق أن ليس ثمة روايات جديدة جديرة بالاهتمام وتستحقّ التقدير، لكنها حبّات اللؤلؤ القليلة الراسية في أعماق بحر النشر الراهن.

تَراجُع العامل الثقافي والفكري أصبح مُعطى ثابتاً، وهو يترافق مع ضمور الموادّ التابعة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانية، وللآداب، في الجامعات. نهاية شهر أيلول الجاري، يصدر العدد الأخير من مجلة "السجال" التي تأسّست العام 1980 وتنشرها دار "غاليمار" الباريسية، ومع هذا العدد تنتهي تجربة فكريّة نقديّة مفتوحة على الأفكار التي تساعد على فهم أفضل لمشاكل العالم المعاصر وتطوّراته، وكان قد شارك فيها بعض كبار المفكّرين والكتّاب والمشتغلين في حقول العلوم الإنسانية ومنهم عالم الأنتروبولوجيا كلود ليفي ستروس والمفكّر ميشال فوكو والكاتب ميلان كونديرا. لذا كانت هذه المجلّة مرآة للبيئة الفكريّة التي سادت باريس في العقود الماضية. كما توقّفت منذ عامين أيضاً مجلة "الأزمنة الحديثة" التي أسّسها جان بول سارتر العام 1945. إن دلّ ذلك على شيء، فإنّما على تراجع الاهتمام بالدراسات المعمّقة وبالنقاشات الجادّة والحقيقيّة لتبقى فقط التحليلات الإعلاميّة، لصيقة الحدث الآني، والكتابات المتطايرة في وسائل التواصل الاجتماعي.

هناك شيء ينطفئ وصفحة تُطوى، وهناك شيء آخر مختلف تماماً في رؤيته وتوجّهاته وفي الأهداف التي تتحكّم في مساره. يقول الشاعر راينر ماريا ريلكه إنّ "الثمرة التي هي محور كلّ شيء، هي أيضاً الموت العظيم الذي يحمله في داخله كلّ واحد منّا".