لوك كوفي

روسيا قد تنجرّ إلى اضطرابات جورجيا

13 أيار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

إحتجاجات في تبليسي - جورجيا في 28 نيسان 2024

نزل مئات آلاف الجورجيين إلى شوارع العاصمة تبليسي منذ أواخر نيسان، احتجاجاً على مشروع قانون مثير للجدل خضع للنقاش في برلمان جورجيا. تطلق الحكومة، بقيادة حزب «الحلم الجورجي»، اسم قانون «شفافية التأثير الخارجي» على ذلك المشروع، بينما يسمّيه خصومه «القانون الروسي» كونه يعكس قانوناً صادراً عن الكرملين لإسكات المعارضة السياسية وقمعها وتعطيلها. وفي أحدث تصعيد للوضع، استعملت شرطة جورجيا خراطيم المياه، والغاز المسيل للدموع، والرصاص المطاطي، لتفريق الاحتجاجات ضد ذلك القانون.



قد يفرض القانون، في حال تمريره، أن تكشف كلّ المنظمات غير الحكومية عن تلقيها لأي مبالغ مالية من الخارج. يعتبر معارضو مشروع القانون تلك التدابير وسيلة لإضعاف المجتمع المدني وتهديد حرية التعبير، ويمكن اعتبار مخاوفهم مشروعة عند النظر إلى تجربة روسيا في هذا المجال.

في السنة الماضية، طرحت حكومة جورجيا تشريعاً مماثلاً قبل أن تسحب مشروع القانون من البرلمان بعد بضعة أيام على اندلاع تظاهرات كبرى. يبدو مشروع القانون الجديد مشابهاً لمسودة السنة الماضية، لكن يكمن الفرق هذه المرة في تصاعد السخط العام أكثر من أي وقت مضى وانتشار التظاهرات على نطاق أوسع، بدعمٍ من السياسيين المعارضين وجماعات المجتمع المدني. تُعتبر أعلام جورجيا، وأوكرانيا، والاتحاد الأوروبي، شائعة وسط الحشود التي تشمل شريحة واسعة من فئة الشباب. حرص حزب «الحلم الجورجي» على نقل الناس إلى العاصمة تبليسي من مختلف أنحاء البلاد للمشاركة في مسيرة داعمة لمشروع القانون. في غضون ذلك، تعهّد مؤسس «الحلم الجورجي» بيدزينا إيفانيشفيلي، في خطابٍ ناري «بمعاقبة» حزب المعارضة الأساسي وجماعات المجتمع المدني بسبب مواقفهم ضد الحكومة.

من المتوقع أن تحصل القراءة الثالثة والأخيرة لمشروع القانون بحلول 17 أيار، ومن المنتظر أن يُشعِل ذلك الحدث الاحتجاجات في شوارع تبليسي مجدداً. وبعد تمرير القانون، يُفترض أن يُحال إلى رئيسة جورجيا سالومي زورابيشفيلي، التي تعهدت بمعارضته. في المرحلة اللاحقة، يستطيع حزب «الحلم الجورجي» أن يستعمل الغالبية التي يملكها في البرلمان لتجاوز ذلك الرفض وتحويل الاقتراح إلى قانون ساري المفعول.

بدأ شركاء جورجيا الغربيون يدقون ناقوس الخطر. دان مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، أعمال العنف ضد المحتجين، وأعلن رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال في وقتٍ سابق أن مشروع القانون «سيُمعن في إبعاد جورجيا عن الاتحاد الأوروبي». تعليقاً على الموضوع، قال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية: «نشعر بخيبة أمل كبيرة بسبب قرار برلمان جورجيا المرتبط بإقرار تشريع «التأثير الخارجي» المستوحى من الكرملين». كذلك، نشر خافيير كولومينا، ممثل حلف «الناتو» الخاص في القوقاز وآسيا الوسطى، الموقف التالي على مواقع التواصل الاجتماعي: «هذا المشروع يُعتبر خطوة إلى الوراء ولا يدعم التكامل الأوروبي - الأطلسي مع جورجيا». لا تُعتبر التظاهرات الحاشدة ضد القانون مفاجئة، لأن 80 في المئة من سكان جورجيا يرون مستقبلهم في الاتحاد الأوروبي.

في الوقت نفسه، حصلت حكومة جورجيا على أعلى مستويات الدعم من موسكو. أعلن الفيلسوف الروسي الصريح والمُطّلع على أوساط الكرملين الداخلية ألكسندر دوغين، أن «جورجيا تسير على الطريق الصحيح» من خلال إعادة إقرار ذلك القانون. كذلك، لام المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، الغرب، على تأجيج «المشاعر المعادية لروسيا» وسط سكان جورجيا، ودافع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، عن مشروع القانون الجورجي علناً.

ترأس حزب «الحلم الجورجي» بعد وصوله إلى السلطة في العام 2012، ائتلافاً أثبت مكانته كشريك إيجابي للغرب. لطالما تعاطف البعض داخل الحزب مع موسكو، لكن عمدت الأوساط الداعمة للشراكة الأوروبّية والأطلسية إلى تهميش هؤلاء الأعضاء دوماً. لكن نجح المعسكر الموالي لروسيا في حزب «الحلم الجورجي» في شق طريقه إلى أعلى المراتب على مر السنين، تزامناً مع إخراج الأعضاء الموالين للغرب من الحكومة.

نتيجةً لذلك، تغيّرت معالم حزب «الحلم الجورجي» ولم يعد يشبه ما كان عليه في العام 2012. يطبّق هذا الحزب راهناً سياسات تُهمّش المعارضة السياسية بطريقة غير منصفة. على الصعيد الرسمي، لا تزال سياسة الحكومة تدعو إلى انضمام جورجيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو»، لكن لا يتخذ المعنيون أي خطوات جدّية لتحقيق هذا الهدف. وبعد إقدام روسيا على غزو أوكرانيا، شككت حكومة جورجيا بالعقوبات الغربية على موسكو، ورفضت الانضمام إليها، وكثّفت عملياتها التجارية مع روسيا. حتى أن كبار المسؤولين في حزب «الحلم الجورجي» سخروا علناً من السفراء الأميركيين المتعاقبين. كذلك، تهاجم الحكومة الجورجيين الذين يتطوعون للقتال إلى جانب أوكرانيا.

لا شك في أن الكرملين يراقب هذه التطورات عن كثب. حالما يوحي الوضع بأن حزب «الحلم الجورجي» بدأ يخسر سطوته على السلطة، يرتفع احتمال أن تتدخّل موسكو. حتى أنّ من يراقب أحداث السنوات الأخيرة لن يستبعد حصول غزو روسي. شارك مستشارون وقوات أمن من روسيا في دعم الديكتاتور البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بعد اندلاع احتجاجات حاشدة في بلده، غداة تزوير الانتخابات في آب 2020. وفي كانون الثاني 2022، قادت روسيا تدخّلاً عسكرياً في كازاخستان لإعادة فرض النظام بعد أيام من العنف السياسي. كذلك، جاء الغزو الروسي الأول لأوكرانيا في العام 2014 بعدما أسقطت ثورة الميدان الأوروبي رئيساً موالياً لروسيا. اليوم، لا شيء يشير إلى امتناع روسيا عن القيام بالمثل في جورجيا.

تحتل روسيا أصلاً 20 في المئة من أراضي جورجيا، بعد عملية الغزو التي أطلقتها في العام 2008، وقد يتخذ أي توغل روسي آخر أشكالاً متنوعة في حال سقطت حكومة جورجيا الموالية للكرملين. وبما أن حزب «الحلم الجورجي» يميل إلى طرح نفسه أمام الشعب كخيار وحيد لمنع حصول غزو روسي آخر، قد تفترض موسكو أن أي استفزاز عسكري من أوسيتيا الجنوبية أو أبخازيا المحتلة من روسيا قد يُرعِب الرأي العام الجورجي ويدفعه إلى تجديد دعمه لحكومته.

يتعلق سيناريو آخر بمئات آلاف الروس الذين انتقلوا إلى جورجيا في السنوات الأخيرة. حتى لو اتخذ جزء كبير منهم هذه الخطوة للهرب من الخدمة العسكرية أو المصاعب الاقتصادية في روسيا، يستحيل أن يعرف أحد إلى أي حدّ تسللت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التابعة للكرملين وسط ذلك الشتات. تكشف تجارب روسيا أن موسكو قد تتدخل «لحماية» الأقلية الروسية، لا سيما إذا ظهرت تُهَم بإساءة معاملة المواطنين الروس.

بحسب أكثر السيناريوات تطرفاً، قد تحاول روسيا إطلاق غزو حقيقي لجعل جورجيا ضمن محور الكرملين بالكامل. قد يبقى هذا السيناريو مستبعداً نظراً إلى التحديات التي تواجهها روسيا في أوكرانيا، لا سيما حجم خسائرها للمعدات والعناصر. لكن مثلما فاجأ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا أكثر الخبراء حنكة في العام 2022، لا يمكن استبعاد أي احتمال اليوم. لا تزال التفاصيل العلنية قليلة، لكن من المعروف أن روسيا بدأت بعسكرة المناطق المحتلة في جورجيا خلال السنوات الأخيرة، مع أن جزءاً من القوات الروسية المنتشرة في أبخازيا أو أوسيتيا الجنوبية انتقل إلى أوكرانيا. في الوقت الراهن، بدأ ألفا جندي روسي يغادرون منطقة ناغورني قره باغ التي تسيطر عليها أذربيجان، ولا أحد يعرف الموقع الذي سينتقل إليه هؤلاء الجنود في المراحل المقبلة.

من المتوقع أن يعارض عدد كبير من سكان جورجيا أي شكل من التدخل الروسي. تحسّنت تدريبات ومعدات القوات المسلّحة الجورجية مقارنةً بما كانت عليه حين أقدمت روسيا على غزو البلاد في العام 2008، وزاد عدد الجنود الذين يتمتعون بخبرة قتالية واسعة بسبب تجربتهم في أفغانستان. كذلك، يقاتل آلاف المتطوعين الجورجيين في أوكرانيا، ولن يتردد هؤلاء في الدفاع عن وطنهم الأم.

على صعيد آخر، قد يترافق أي تحرك روسي في جورجيا مع تداعيات بارزة على المصالح الأميركية في المنطقة. قد تتمكن موسكو مثلاً من الوصول إلى ساحل البحر الأسود بعد السيطرة على جورجيا، فيما تتعرّض قواتها البحرية للصدّ في غرب البحر الأسود اليوم عبر ضربات أوكرانية ناجحة بالصواريخ والطائرات المسيّرة. كذلك، قد تسيطر روسيا على كلّ خطوط أنابيب الغاز والنفط التي تربط بين أوروبا وموارد الطاقة الواسعة في أذربيجان وكازاخستان من خلال احتلال ولو جزء إضافي بسيط من جورجيا.

أخيراً، قد تؤدي سيطرة روسيا على جورجيا إلى إنشاء جسر برّي ضروري مع حليفة موسكو، أرمينيا، ما قد يسمح بنشوء ممر برّي وجوي مباشر بين روسيا وإيران، في ظل تكثيف التعاون العسكري بين البلدَين.

عند النظر إلى الخارطة، يسهل أن نفترض أن أي ممر مماثل بين روسيا وإيران سيسمح لموسكو بالسيطرة على نقطة العبور بين الشرق والغرب في البرّ الأوراسي. بالنسبة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد يستفيد هذا الأخير من أي تدخّل خاطف في جورجيا لتحقيق انتصار جيوسياسي أصبح بأمسّ الحاجة إليه بعد أكثر من سنتين على تورّطه في مستنقع أوكرانيا.

في حديقة تُطِلّ على ضفاف نهر «كورا» في تبليسي، ثمة تمثال برونزي للرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان. ليست صدفة على الأرجح أن يظهر فيه الرئيس وهو ينظر إلى جهة الشمال، في اتجاه روسيا. قد يُذَكّر ذلك التمثال سكان جورجيا بالمسار الذي قطعوه منذ العهد السوفياتي القمعي. قبل أن تحاول روسيا التدخّل في البلاد إذاً، يُفترض أن يتوقف حزب «الحلم الجورجي» عن تصعيد المواجهة في شوارع تبليسي ويسحب مشروع القانون. يجب أن تُوجّه العواصم الغربية هذه الرسالة في أسرع وقت.

MISS 3