في 25 تشرين الأول 1976، سافر رجل الأعمال الأميركي تشارلز أبرامز إلى ميناء «ساوث ستريت» في مدينة نيويورك للترحيب بسفينة مُحمّلة بالفودكا الصينية. اعتبر أبرامز تلك العملية أول تجربة تجارية لاستيراد الخمور من الصين منذ العام 1949.
حوّل أبرامز تلك اللحظة إلى حدث تسويقي صاخب. بعد تفريغ صناديق الفودكا من السفينة، اجتمع الحاضرون في مطعم صيني حيث «توزّعت الفودكا واللحوم لتدفئة الضيوف سريعاً»، كما كتبت مجلة «تشاينا بيزنس ريفيو».
كان أبرامز ينتمي إلى جيل جديد من رجال الأعمال الأميركيين الذين استأنفوا العمليات التجارية مع الصين بعد أكثر من عشرين سنة من العزلة خلال حقبة الحرب الباردة. وجّهت مشاعر الانبهار، والأمل، والحماس، والخيبة، قراراتهم بقدر المعطيات الاقتصادية الصارمة. وبعد التعاون مع رجال أعمال من الصين، بدأوا يلاحظون ظاهرة جديدة في السوق الصينية.
طوال قرون، اعتبر الأجانب الصين مساحة شاسعة تعجّ بعملاء محتملين. كانت التجارة تعني بالنسبة إليهم زيادة صادراتهم. لكن اعتبر التجار الجدد خلال السبعينات الصين مصدراً محتملاً لليد العاملة، فأحدثوا تغييراً جذرياً في معنى السوق الصينية، وتحوّلت هذه الأخيرة من مكان لبيع السلع الأميركية إلى معقل لليد العاملة الرخيصة.
احتاج أبرامز إلى ثلاث سنوات لإتمام صفقة استيراد الفودكا من شركة «سيرويلفود» المملوكة للدولة الصينية. لكن في ربيع العام 1976، توصّل الطرفان إلى اتفاق نهائي أخيراً. لم يكتفِ أبرامز باستيراد الفودكا الصينية وتغيير اسمها، بل وافقت الشركة أيضاً على المشاركة في حملة دعائية عبر البريد المباشر. راح الطلاب الصينيون يدوّنون العنوان على المنشورات ويختمونها ويرسلونها من الصين إلى مديري شركات الخمور ورجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين في الولايات المتحدة. كانت تلك المبادرة الأولى من نوعها بين بكين وواشنطن، وأدرك أبرامز حينها أن هذه الظاهرة المستجدة تشكّل عنصراً أساسياً من جهوده التسويقية.
عند إبرام الاتفاق، اعترف أبرامز أمام الصحافيين بأنه شعر ببهجة عارمة. للمرة الأولى منذ بدء التقارب بين البلدين، تشارك الحكومة الصينية في حملة تسويقية في الولايات المتحدة.
بمساعدة شركة «سيرويلفود»، راح أبرامز يرسل المنشورات التي تسوّق فودكا «غريت وول» إلى 50 ألف منزل أميركي. لكن لم يتلقَ الطلاب الصينيون الذين حضّروا تلك المنشورات وختموها أي أجر مقابل عملهم. ذكرت مجلة «تايمز» أنّ هؤلاء الطلاب عملوا «بلا مقابل»، لكنها استنتجت في الوقت نفسه أن أبرامز «يهدف إلى جمع الأرباح لنفسه وللصينيين».
بالإضافة إلى حملة البريد المجانية، استفاد أبرامز أيضاً من تضخيم أسعار منتجاته. كان العملاء الأميركيون يستطيعون شراء صندوق فيه 12 زجاجة فودكا من ماركة «غريت وول» مقابل 108$. استفادت حملة أبرامز التسويقية بالكامل من ارتفاع سعر المنتج. ذكرت الإعلانات التي لم تظهر إلا في مجلة «نيويوركر» أن «غريت وول» هي «أغلى فودكا في العالم». استهدفت تلك الحملة المستهلكين الذين يهتمون بشراء فودكا «ليست حكراً على الفلاحين»، كما ذكر أحد الإعلانات. لم تكن السياسة الطبقية المستعملة في هذه الحملة سلسة بأي شكل. كان الليبراليون الأثرياء الذين يقرأون مجلة «نيويوركر» ويستهلكون الفودكا الصينية يستطيعون تمييز أنفسهم عن «الفلاحين» بفضل جهود الطلاب الصينيين الذين لم يتلقوا أي مقابل.
حمل أبرامز رؤية معيّنة عن الواردات الصينية، فهو أراد أن يحافظ على مكانتها كسلع فاخرة، فقال أمام الصحافيين يوماً: «أنا أركّز في هذه العملية كلها على المنتجات العالية الجودة. لا نريد أن نحوّل الصين إلى نسخة أخرى من اليابان». هو لم يشرح معنى تلك النسخة بوضوح، لكنه أطلق هذا الموقف حين كانت الولايات المتحدة تستورد أعداداً كبيرة من السلع اليابانية القليلة الكلفة. كان أبرامز يأمل في إعطاء السوق الصينية مكانة مختلفة، فيصبح معقلاً للسلع الحصرية والأقل كلفة في آن.
حرص أبرامز على تسويق فكرة تُميّز فودكا «غريت وول» عن المنتجات الأخرى. ذكرت إعلاناته أن هذه الفودكا هي الأغلى في العالم، لكنه لاحظ بعد فترة قصيرة أن منافِسه الأساسي أطلق ادعاءً مشابهاً. كانت شركة «بيبسيكو» تستورد الفودكا الروسية «ستوليشنايا»، وقد سوّقتها «كأغلى فودكا تُباع في الولايات المتحدة». عملياً، كانت تكاليف بيع فودكا «غريت وول» بالتجزئة أعلى بدولار واحد فقط، واعتبر أبرامز هذا الفرق كافياً. استعان هذا الأخير بمحامين، ورفع دعوى ضد شركة «بيبسيكو» في نيسان 1977، وطالب بتعويض هائل وصلت قيمته إلى 5 ملايين دولار. رفع محاموه تلك القضية أمام المحكمة العليا في نيويورك، وأكدوا امتلاكهم «الحق الحصري لاستعمال عبارة «أغلى فودكا في العالم»».
قامت الشركتان بتسوية ذلك الخلاف في تشرين الثاني 1977، حين أمرت المحكمة شركة «بيبسيكو» بالتوقّف فوراً عن استعمال أي عبارات توحي بأن الفودكا التي تبيعها هي الأعلى كلفة. لكن لم يُطلَب منها أن تدفع أي تعويضات. اعتبر الصحافيون تلك القصة شكلاً غير مسبوق من منافسات الحرب الباردة، فكتبت صحيفة «وول ستريت جورنال»: «الصين والاتحاد السوفياتي يخوضان مسابقة محتدمة في الحانات ومتاجر الخمور في أنحاء الولايات المتحدة». كذلك، كتبت مجلة «ريفيو» بنبرة ساخرة أن «الصين وروسيا تخوضان راهناً خلافات جديدة ومتقلّبة جداً. تحاول فودكا «غريت وول» أن تتحدّى الهيمنة السوفياتية في سوق الفودكا الدولية».
كان ذلك التعليق الساخر لافتاً جداً. عمدت شركتان إلى استعمال القوى العظمى الشيوعية للتنافس على لقب أنجح الرأسماليين في أغنى اقتصاد في العالم. لكن كانت حرب الفودكا على الأرجح أكثر نجاحاً في نشر استراتيجيات أبرامز التسويقية. بالنسبة إلى «بيبسيكو»، كانت تلك القضية مجرّد مشكلة مزعجة وعابرة. في المقابل، تابع أبرامز استعمال الظروف الجيوسياسية لمصلحته. حين أقدم الاتحاد السوفياتي على غزو أفغانستان في كانون الأول 1979، أعلن أبرامز «حرب فودكا» جديدة، فشجّع المستهلكين على سحق زجاجات فودكا «ستوليشنايا» احتجاجاً على ما حصل.
كان أبرامز استعراضياً بطبيعته أكثر ممّا هو رجل أعمال، وبدا موقفه من الفودكا الصينية جزءاً من تحوّل ثقافي واقتصادي واسع. تزامن تدفّق الواردات الصينية بوتيرة ثابتة مع جهود أبرامز التسويقية، ما أدّى إلى تغيير نظرة رجال الأعمال والمستهلكين الأميركيين إلى السوق الصينية.
كان دون كينغ من أشهر مروّجي الملاكمة في الولايات المتحدة، وقد دعم بدوره الثقافة الاستعراضية المحيطة بالتجارة مع الصين. تعاون كينغ مع محمد علي لسنوات واعتبر نفسه «مروّجاً استثنائياً». هو معروف بتنظيم مباراة ملاكمة في زائير (جمهورية الكونغو الديموقراطية اليوم) في العام 1974، بين محمد علي وجورج فورمان الذي لم يعرف الهزيمة في تلك الفترة. حملت تلك المباراة اسم «صخب الغابة» وأصبحت من البرامج التلفزيونية الأعلى مشاهدة خلال ذلك العقد، ويتذكّر الناس حتى الآن فوز محمد علي الصادم على المرشّح الأوفر حظاً والأصغر سناً منه.
في صيف العام 1976، ركّز كينغ كامل جهوده التسويقية على التجارة مع الصين. في منزله الواقع في مانهاتن، في الطابق السابع والستين من مركز «روكفلر»، نظّم كينغ حدثاً للصحافيين والنُخَب في الشركات وجمع بين أجواء المؤتمرات الصحافية والحفلات في آن. كان كينغ محاطاً بأبرامز والمنتج التلفزيوني لاري غيرشمان حين أعلن أنه أسّس شركة جديدة لاستيراد المنتجات الرياضية من الصين. هكذا أصبحت شركة «دون كينغ فرينشيب سبورتس كلوذز أند غودز» فرعاً تابعاً لشركة «تشاينا تريد» التي يملكها أبرامز. توزّعت أكواب من فودكا «غريت وول» التي يسوّقها أبرامز على الضيوف خلال حفلة كينغ. ومع تقدّم الساعات في تلك الأمسية، بدأ الضيوف يلعبون بكرات سلة وطائرة صُنِعت في الصين، فراحوا يرمونها ويتبادلونها في ذلك الجناح الضخم في مانهاتن. أوضح كينغ أن المعدّات الصينية تتمتع «بقوى خارقة»: بفضل كرات السلة وقفازات الهوكي الصينية، يستطيع اللاعبون أن يحتفظوا بالكرة لوقتٍ أطول ويسجلوا نقاطاً إضافية. كذلك، استُعمِلت فكرة الرجولة المفرطة كجزءٍ من الحملة التسويقية.
أوضح كينغ، الرجل الأسود، أمام الصحافيين أن أبرامز طلب منه الانضمام إلى فريقه لأنه «يتكلم بلغة العالم الثالث». ثم أضاف قائلاً: «هذه اللغة ليست مَحْكِيّة بل إنها لغة القلب». من خلال التطرّق إلى «العالم الثالث»، استعمل كينغ أفكاره عن التضامن بين أفريقيا وآسيا لتحقيق أهدافه التسويقية الخاصة. تزامنت جهوده مع لجوء عدد كبير من قادة الحقوق المدنية السود إلى فكر ماو تسي تونغ لإيجاد بدائل عن مظاهر العنف واللامساواة التي نشأت في عهد الليبرالية الأميركية. هكذا طرح كينغ نفسه كشخصٍ مختلف عن رجال الأعمال البيض والأثرياء في محيطه، فقال علناً: «أنا جئتُ من عامة الناس».
كان كينغ وأبرامز بارعَين في التسويق، وقد تعاونا معاً لبيع المنتجات الصينية عبر استعمال أنواع مختلفة من الأفكار الرأسمالية الجاذبة. أكد كينغ قربه من المستهلكين عبر التكلم عن «العالم الثالث» و»عامة الناس»، وهو شكل من الرأسمالية المبنية على تجارب الانتقال من الفقر إلى الثراء. في المقابل، لجأ أبرامز إلى فكرة تَمَيُّز نخبة المجتمع: يرتكز هذا النوع من الاستهلاك الرأسمالي على عرض أغلى المنتجات. اتّضحت هذه الاختلافات أيضاً في أنواع المنتجات الصينية التي استوردها كل رجل منهما. ربما كانت شركة كينغ فرعاً تابعاً لشركة أبرامز، لكن بدا الرابط بين كل شركة منهما والواردات الصينية مختلفاً. على عكس فودكا «غريت وول»، لم تكن المعدّات الرياضية التي استوردها كينغ تحمل مزايا صينية خاصة. ورغم إصرار كينغ على الطبيعة «الخارقة» لكرات السلة المصنوعة في الصين، انجذب المستهلكون إلى تلك الواردات في المقام الأول بسبب تراجع كلفة اليد العاملة.
لم يشأ أبرامز أن تتحوّل الصين إلى «نسخة أخرى من اليابان»، لكن سرعان ما طغت السلع الاستهلاكية الرخيصة على المنتجات التي يستوردها الأميركيون من الصين. في مطلق الأحوال، سمحت الاستراتيجيات التسويقية التي طبّقها أبرامز وكينغ بإحداث تغيير ثقافي داخل الولايات المتحدة، ما أدّى إلى تحويل الصين من خصم أساسي في فترة الحرب الباردة إلى شريكة تجارية. بعبارة أخرى، تغيّرت نظرة الناس إلى ذلك البلد وانتقلت من «الصين الحمراء» إلى حقبة «صُنِع في الصين».