بعدما كان مُقرّراً أن تُعلن المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري نصّ قرار الحكم منتصف أيار الماضي، عادت وحدّدت تاريخ صدوره في 7 آب. وبعد انفجار العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت أجّلته إلى 18 آب. بعد 15 عاماً وستة أشهر على تلك العملية، هل سيُحقّق الحكم العدالة؟ وهل سيمنع الإفلات من العقاب؟ لن يكون هذا الحكم نهاية طريق بل نهاية مرحلة، ذلك أنّ المحكمة باقية لتنظر في قضايا محاولتي اغتيال الوزيرين مروان حماده والياس المر واغتيال جورج حاوي.
ماذا سيتغيّر بعد صدور الحكم؟ هل سيبقى مجرّد حبر على ورق؟ هل ستكون له تداعيات على الأرض؟ كيف ستتعاطى معه السلطات اللبنانية التي تُصرّف الأعمال أمنياً وقضائياً وسياسياً؟ هل ستتجاهله؟ هل ستُطبّق قرار توقيف المتّهمين بعد الحكم عليهم وإدانتهم؟ ماذا سيفعل "حزب الله"؟ هل تتطلّب المرحلة التالية من عمل المحكمة 15 عاماً جديدة؟
ليست ضد مجهول
لا شكّ في أنّ مضمون الحكم بات معروفاً من خلال وقائع المحاكمة ومجريات عمل لجنة التحقيق الدولية، ولكنّ صدوره سيعني نهاية مرحلة لتبدأ بعدها مرحلة جديدة. فمنذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، تغيّرت أمور كثيرة في لبنان والمنطقة. ثمّة أنظمة انهارت وحروب اندلعت وثورات حصلت، ولكنّ مسار المحكمة لم يتبدّل، ولم تمنعها أي تطورات من الإستمرار بالقيام بمهامها. إنّما خارج هذا السياق للعمل الروتيني، يبقى السؤال عن فعالية ما تقوم به هذه المحكمة.
قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كانت بدأت مرحلة التغيير بالدم في لبنان. ما يُحكى اليوم عن الحرب الشاملة بين مِحوري دول المُمانعة ودول الغرب وعن جعل لبنان ساحة لها، كان في صلب الأحداث اللبنانية التي أدّت إلى اتّخاذ القرار بالتخلّص من الحريري. منذ صدر القرار 1559 الذي طالب بسحب القوات السورية من لبنان ونزع سلاح "حزب الله" وانتخاب رئيس جديد للجمهورية وعدم التمديد للرئيس إميل لحود، كان مجلس الأمن الدولي قد بدأ بوضع لبنان تحت وصايته. محاكمة المتّهمين في قضية اغتيال الرئيس الحريري قدّمت صورة شاملة عن تلك الحرب التي لا تزال دائرة من خلال استعراض المرحلة السياسية التي كانت وراء قرار الإغتيال، ومن خلال سرد الوقائع التي رافقت عملية التنفيذ. وإن كانت القراءة السياسية شاملة ووافية لإطلاق الإتّهام السياسي، فإنّ الوقائع والأدلّة كانت وافية وكافية أيضاً لحصر التهم وقراءة التفاصيل لتأكيد هذا الإتّهام، من دون أن تكون هناك رواية كاملة للوقائع. ذلك أنّ الظروف التي تمّت فيها عملية الإغتيال كانت مُحاطة بالسرّية التامّة، التي كان من الصعب اختراقها لولا أنّها سقطت في بعض الهفوات التي اعتبرت أنّ كشفها والعبور من خلالها إلى الحقيقة غير مُمكن، لا بل مستحيل.
بالرغم من هذه السرّية المطلقة، فقد كادت عملية الإغتيال أن تكون مُعلنة ومكشوفة، لم يكن هناك خوف من التداعيات. غير الهفوات التي لم يُحسب لها حساب في التنفيذ فثمّة هفوات لم يُحسب لها حساب بعد التنفيذ. إعتقد "حزب الله" الذي ينتمي إليه المنفّذون أنّ الجريمة ستبقى محلّية، وأنّ احتواءها سيكون محلياً، وأنّ التحقيق فيها سيبقى تحت وصاية أجهزة أمن عهد الوصاية، وأنّ القضية في النهاية لن تصل إلى القضاء، وإن وصلت، فلن تكون إلا ضدّ مجهول لا يُمكن اكتشافه. وبالتالي، تمّ الأخذ في الإعتبار أنّ العملية تتمّ في أرض آمنة للمخطّطين والمنفّذين، ولذلك كانت المفاجأة كبيرة عندما انتقل ملفّ القضيّة إلى المستوى الدولي في مجلس الأمن.
صحيح أنّ محاولة اغتيال الوزير مروان حماده في أول تشرين الأول 2004 تمّ اعتبارها رسالة إلى رئيس "الحزب التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط، ورئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، ولكنّها اعتُبِرت أيضاً بأنّها لن تكون الأخيرة. وصحيح أنّ الحريري كان تلقّى تهديداً مباشراً من رئيس النظام السوري بشّار الأسد، وأنّه نقل هذا التهديد إلى جهات محلية ودولية، ولكن كلّ ذلك لم يمنع اغتياله. القرار باغتياله قد يكون سبق القرار 1559، ذلك أنّ تطوّرات الوضع الداخلي ومحاولات الخلاص من عهد الوصاية كانت بدأت تظهر منذ العام 2003 واحتلال القوات الأميركية أفغانستان والعراق. قوى المُمانعة كانت دائماً تنظر إلى الرئيس رفيق الحريري وكأنّه جسر عبور للقوى التي تعتبر أنها مطيّة للغرب، ودائماً كان تحت المراقبة والضبط، وعندما أدركت تلك القوى أنّه يُمكن أن يتحرّر من قبضتها كان القرار باغتياله. قرار صدر عن "محكمة" مِحور الممانعة تردّ عليه اليوم المحكمة الدولية بقرار الإدانة. ولكن الفارق أنّ القرار الأول تمّ تنفيذه، أما قرار الردّ عليه قد يبقى من دون تنفيذ.
إدانة تحت الفصل السابع
في 7 نيسان 2005، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 1595 الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية لتبدأ بعملها. صدر القرار بالإجماع، وأكّد على دعم سيادة لبنان واستقلاله وسلامته الإقليمية. هذا القرار صدر بعد تقرير بعثة تقصّي الحقائق برئاسة بيتر فيتزجيرالد بناءً على تكليف الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، وقد تمّ التأكيد فيه على تقصير أجهزة الأمن اللبنانية وعلى العيوب الكثيرة التي اعترت التحقيقات الرسمية، ومنها محاولات العبث بمسرح الجريمة. وخرج التقرير بتوصيات لفصل الأمن عن السياسة، وبأن تكون هناك هرمية أمنية وطنية، وخلص إلى أنّ "وجهة نظر البعثة هي أنّ الدعم السياسي الدولي والإقليمي سيكون ضرورياً لحماية وحدة لبنان الوطنية وصيانة سياسته الهشّة من الضغط غير المرغوب به، وأنّ تعزيز فرص السلام والأمن في المنطقة سيوفّر أرضية صلبة لاستعادة الوضع الطبيعي في لبنان". كلام يصلح اليوم للبتّ في موضوع التحقيق في انفجار المرفأ. وكأنّ الوضع عاد إلى ما كان عليه قبل اغتيال الرئيس الحريري. بناءً على ذلك، وصل رئيس لجنة التحقيق الأول ديتليف ميليس إلى لبنان ليبدأ التحقيق الدولي ويرفع تقريره الأول الذي ربط فيه مراحل تنفيذ الجريمة بالوضع السياسي العام. بعده، أتى سيرج براميرتس ثم دانيال بلمار الذي قدّم تقريره النهائي في العام 2011. إذا كانت مسألة تشكيل لجنة التحقيق مرّت من دون مشكلات كبرى، فإنّ إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان كان معركة بحدّ ذاتها، خاضتها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بعد محاولة إسقاطها من خلال استقالة الوزراء الشيعة والوزير المحسوب على الرئيس إميل لحود، بينما اختار وزير العدل شارل رزق خوض المواجهة بعدما تبلّغ من مجلس القضاء الأعلى ما مفاده أن "أبعد عنّا هذه الكأس... مش قادرين نحمل قضية الحريري". على هذا الأساس، أصدر مجلس الأمن بالإجماع في 30 أيار 2007 القرار 1757 الذي أقرّ إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان لمقاضاة المسؤولين عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري وجميع الهجمات التي حصلت بين 1 تشرين الأول 2004، تاريخ محاولة اغتيال الوزير مروان حماده، و12 كانون الأول 2005، تاريخ اغتيال النائب جبران تويني، وذلك تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
بموجب هذا القرار، كان على السلطات اللبنانية أن تنفّذ ما تطلبه لجنة التحقيق وما تُقرّره المحكمة. ولكنّ هذه السلطة كانت تتهرّب من الإلتزام، خصوصاً بما يتعلّق بالوصول إلى المتّهمين، وبالتالي تجاهل توقيفهم.
محاولة اغتيال الحقيقة
مع استمرار مسلسل الإغتيالات، بالرغم من هذا الإلتزام الدولي بتحقيق العدالة، استمرّت أيضاً محاولات اغتيال التحقيق وعمل المحكمة، ولكنّ هذه المحاولات لم توقف سير العدالة الدولية التي وصلت إلى خواتيمها في الحكم الذي يصدر في 18 آب تتويجاً لكل هذا المسار.
عملياً، قد لا يقدّم هذا الحكم معطيات جديدة في الوقائع التي باتت معروفة، ولكن قد تكون له انعكاسات وتداعيات. بالنسبة إلى الرئيس سعد الحريري، فهو يحاول أن يحتوي ردّات الفعل على أساس أنّه يقدم المصلحة الوطنية على المصلحة الشخصية، ولكن هل يستطيع أن يضبط كلّ الشارع طالما أن اغتيال الحريري ليس قضية شخصية ولا يُسقطها إسقاط الحق الشخصي، خصوصاً بعد تداعيات انفجار المرفأ واستقالة حكومة الرئيس حسّان دياب والبحث عن رئيس حكومة جديد وعن حكومة جديدة؟
بالنسبة إلى "حزب الله"، هل يستطيع أن يستمرّ في الإنكار؟ إذا كان طوال المراحل السابقة منذ 14 شباط 2005 نفى علاقته بالإغتيال، واعتبر أنّ المحكمة الدولية جزء من المؤامرة عليه، هل يمكنه أن يخطو خطوة باتجاه ما يقوم به الرئيس سعد الحريري ليُلاقيه في منتصف الطريق؟
بالنسبة إلى الحكومة المستقيلة والسلطات الأمنية والقضائية، هل ستلتزم تنفيذ الحكم؟ وهل سيكون بإمكان "حزب الله" أن يبقى مُمسِكاً بقرارها؟
لن تكون نهاية المحكمة بعد صدور الحكم. ثمّة مواعيد جديدة لبدء المحاكمة في قضايا محاولتي اغتيال الوزيرين مروان حماده والياس المرّ، واغتيال الأمين العام لـ"الحزب الشيوعي" السابق جورج حاوي المرتبطة بقضية اغتيال الرئيس الحريري، والمتّهم الرئيسي فيها كلّها هو المتّهم الرئيسي في قضية اغتيال الحريري سليم عيّاش. وبالتالي، فإن "حزب الله" هو المتّهم أيضاً. صحيح أنّ الحكم قد يبقى نظرياً وحبراً على ورق، ولكنّه في النتيجة سيكون حكماً للتاريخ، وسيكون بمثابة ردّ اعتبار للرئيس رفيق الحريري ولكلّ شهداء ثورة الأرز الذين طالتهم عمليات الإغتيال، وسيبقى تأثيره المعنوي كبيراً جدّاً، وسيبقى سيف العدالة مُصلتاً فوق رؤوس المتّهمين المباشرين والمعنويين. وستبقى الحرب مستمرّة بين المحكمة الدولية ومحكمة "حزب الله" وستبقى محاولات اغتيال الحريري مستمرّة.