بعد أشهر من الجمود الميداني على الخطوط الأمامية، استحوذت روسيا على زمام المبادرة في ساحة المعركة من خلال استراتيجية عسكرية جديدة يُحاول فيها الجيش الروسي إجبار كييف على تحويل قوّاتها من مناطق أخرى على خطّ الجبهة وتركيزها في الجيش الروسي، شمال شرق أوكرانيا، ما يُمكّن القيادة العسكرية الروسية من شنّ هجمات مفاجئة في مناطق أخرى، مثل المناطق المرتفعة المحيطة ببلدة تشاسيف يار الاستراتيجية في دونيتسك، شرق البلاد، حيث تتقدّم روسيا أيضاً، ومناطق أخرى في زابوريجيا جنوباً. أظهر تحليل أجرته وكالة «فرانس براس» استناداً إلى بيانات للمعهد الأميركي لدراسة الحرب أنّ روسيا سيطرت على 278 كيلومتراً مربّعاً في غضون أسبوع في أوكرانيا، ولا سيّما في منطقة خاركيف، في أكبر اختراق لها منذ سنة ونصف السنة. وبين 9 أيار و15 منه، سيطرت روسيا على 257 كيلومتراً مربّعاً في منطقة خاركيف وحدها، مركز الهجوم الروسي الجديد.
أمّا البقيّة، وهي 21 كيلومتراً مربّعاً، فقد تمّت السيطرة عليها في مواقع مختلفة على خط الجبهة، من بينها بلدة روبوتين الاستراتيجية في زابوريجيا، التي تحمل رمزية خاصّة للجيش الأوكراني، على اعتبار أنّها كانت من المناطق القليلة التي استعادتها كييف خلال الهجوم المضادّ الذي شنّته الصيف الماضي، والتي كان زيلينسكي قد زارها في شباط حيث أشاد آنذاك باستعادتها واصفاً الأمر بالنصر الكبير. أوضح تكثيف الهجمات الروسية على جبهات متعدّدة ومتباعدة، النقص الحادّ في الذخيرة والعديد الأوكراني الذي يشلّ دفاعاته لصدّ التقدّم الروسي السريع. ولا تزال إدارة بايدن تُعارض السماح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة الأميركية البعيدة المدى لاستهداف عمق الأراضي الروسية، أو على الأقلّ تلك القريبة من جبهات القتال الحدودية، وذلك لتفادي توسيع الصراع مباشرةً مع موسكو التي تمتلك أكبر ترسانة من الأسلحة النووية في العالم، وتداعياته على الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، على الرغم من الحاجة الماسة لكييف للقيام بذلك لصدّ الهجوم الروسي المفاجئ على خاركيف وغيرها من المناطق الأوكرانية.
المنطق العسكري يفترض أنّه لإيقاف روسيا في أوكرانيا يتطلّب التحوّل من النهج التفاعلي، أي انتظار الفعل الروسي لإطلاق ردّة الفعل الأوكرانية -الغربية، الذي اتُّبع خلال العامين الماضيين، إلى استراتيجية أكثر استباقية. وينبغي لهذه الاستراتيجية أن تتوقّع صراعاً قد يمتدّ لسنتين أو ثلاث سنوات أخرى، وأن تستعدّ أوكرانيا والغرب، خصوصاً الدول الأوروبّية، لتداعيات أي عملية استباقية مدعومة من الغرب على الحدود الأوروبّية، الأمر الذي لا يخشاه بوتين.
أثبتت روسيا خلال السنتين الماضيتين أنّها أكثر قدرة على تعبئة الموارد العسكرية من الولايات المتحدة والدول الأوروبّية مجتمعة، حيث تشير تقديرات استخبارات «الناتو» إلى أنّ روسيا تُنتج ثلاثة ملايين ذخيرة مدفعية سنويّاً، أي ثلاثة أضعاف قذائف المدفعية التي تنتجها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإرسالها إلى أوكرانيا، ومعدّل الإنتاج هذا هو السبب وراء إطلاق موسكو ما يصل إلى 10 أضعاف عدد الهجمات المدفعية على طول خط المواجهة مقارنة بأوكرانيا. وهذا الواقع يُريح الجيش الروسي على التوسّع واحتلال المزيد من الأراضي، علماً أنّ نيران المدفعية تستخدم في المراحل التمهيدية قبل دخول المشاة، وذلك لتهجير المواطنين وتدمير المواقع الدفاعية الأوكرانية.
لا تستطيع الولايات المتحدة إنتاج ما يكفي من الأسلحة لأوكرانيا والمحافظة على قدرتها على التعامل مع حالات الطوارئ الأخرى حول العالم، لكن أوروبا والولايات المتحدة تستطيعان معاً القيام بذلك. ينبغي للجهود الأميركية أن تُعطي الأولوية لاتفاقات الإنتاج المشترك، وتغيير طريقة تصنيع الأسلحة، ويجب أن تُحفّز المساعدات الأميركية البرامج الأوكرانية لصناعة أو دمج الأسلحة القديمة لاستخدامها في الحرب، مثل برنامج «فرانكين سام» الذي ساعد كييف على الجمع بين الرادارات وقاذفات الصواريخ السوفياتية القديمة مع صواريخ أرض - جو تابعة لحلف «الناتو».
تحتاج أوكرانيا إلى ما هو أكثر من المساعدات المالية والعسكرية الأميركية والأوروبّية، الأمر الذي يتطلّب من كييف تفعيل «محرّكات» ديبلوماسيّتها بشجاعة، إذ يتبيّن أن لا قدرة للجيش الأوكراني على استعادة الأراضي المحتلّة في ظلّ التململ الدولي من الحرب، والخوف من ردّة الفعل الروسية في حال التدخّل العسكري الفعّال. وهذا الواقع يفرض على القادة السياسيين الأوكرانيين الدخول في محادثات مباشرة مع موسكو لإيقاف التوسّع الروسي في المرحلة الأولى، وتقوية الشراكة الدفاعية مع المصانع الدفاعية الأوروبّية والأميركية لتعزيز قدرة الردع في المراحل اللاحقة، لتمكينهم من فرض شروط تُحافظ على الحقوق الأوكرانية بإنشاء مناطق عازلة على الحدود، تكون ضمن الحدود الأوكرانية.