في العام 1990، حين كان الاتحاد السوفياتي يتجه إلى المرحلة الأخيرة من انهياره، طرح كاتب روسي معروف خطة مستقبلية تناسب حقبة ما بعد السوفياتية. تطرّق ذلك الكاتب إلى ضرورة أن تتخلّص روسيا من أغلالها السوفياتية عبر التصويت ضد الحزب الشيوعي المتخبّط وتعيد هيكلة الاقتصاد بالكامل. كذلك، دعا الكاتب الكرملين إلى تحرير مجموعة من مستعمرات موسكو السابقة، لا سيما تلك الواقعة في أماكن مثل البلطيق، والقوقاز، ومعظم مناطق آسيا الوسطى.
في المقابل، يمكن الاستيلاء على حدود أخرى. يُفترض أن تعود أجزاء من كازاخستان مثلاً إلى روسيا، بالإضافة إلى بيلاروسيا التي لم تكن أمّة مختلفة عن روسيا بشكل عام. الأهم من ذلك هو أن تبقى مساحات من أوكرانيا روسية من حيث الانتماء، بدءاً من شرق أوكرانيا وصولاً إلى شبه جزيرة القرم وأماكن أخرى قد تصل إلى كييف بحد ذاتها. شملت تلك الأراضي كلها ممتلكات روسية تقليدية، ودعا ذلك الكاتب إلى ضمّها في إطار «اتحاد روسي» مستقبلي، ما يعني عدم الاكتفاء بإعادة ملايين الروس القوميين من بين المقيمين خارج حدود الاتحاد الروسي إلى بلدهم الأم، بل إعادة موسكو أيضاً إلى مكانتها المناسبة على الساحة العالمية.
لم يهتم الكثيرون في الغرب بهذه الاقتراحات السياسية ولم يقلقوا في شأنها في تلك الفترة. إنه موقف مبرر لأن الغرب كان يُركّز في المقام الأول على ضمان تفكك الاتحاد السوفياتي بوتيرة ثابتة. لكن بدا الجهل السائد صادماً من ناحية أخرى، لأن الكاتب الذي طرح تلك الاقتراحات الواردة في كتاب بعنوان Rebuilding Russia (إعادة بناء روسيا) كان ألكسندر سولجينتسين الفائز بجائزة نوبل و»المُهَيْمِن على القرن العشرين»، كما وصفه محرر صحيفة «نيويوركر» ديفيد ريمنيك، يوماً.
خضعت معظم أعمال سولجينتسين لنقاشات وتحليلات مكثفة، لكن أغفل معظم المحللين عن هذا الكتاب بالذات. ونظراً إلى التشابه البارز بين تحركات الكرملين وتوصيات سولجينتسين في كتابه خلال السنوات التي تلت نشره، يُعتبر الإغفال عنه مؤسفاً لأنه قد يخبرنا بما يريد الكرملين تحقيقه في أوكرانيا وأماكن أخرى.
هذا الكتاب صغير نسبياً، إذ تقتصر ترجمته الإنكليزية على تسعين صفحة تقريباً. لكن يكشف سولجينتسين في هذه الصفحات القليلة أنه ليس مجرّد رجل قومي روسي، بل إنه من النوع الذي ينغمس في النظريات والأفكار الصوفية التي انجذب إليها لاحقاً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. على غرار بوتين، يؤيد سولجينتسين فاشيين روس من أمثال إيفان إيلين ويشيد بـ»الحياة الروحية للأمّة». هو يزعم أيضاً أن مجموعة كبيرة من الدول الأصغر حجماً التي استعمرتها القوى الروسية في عهد القياصرة عاشت «حياة جيدة» في الإمبراطورية الروسية، لكنه يتجاهل في المقابل ما فعلته روسيا لترهيب أمم كاملة في شمال آسيا، فقد جرّدتها من السكان والسيادة على حد سواء، وصولاً إلى ارتكاب إبادة جماعية.
لكن يتّضح تأييد سولجينتسين لاسترجاع الأراضي في أوكرانيا تحديداً وفي دعواته إلى إنشاء اتحاد روسي، وتشير هذه النزعة إلى طبيعة القوى التي تحرّك الكرملين وخططه المرتقبة. بدل نشوء أوكرانيا مستقلة ومنفصلة عن الاتحاد الروسي، يدعو سولجينتسين إلى إنشاء كيان جديد.
لكن بدل أن يستهدف سولجينتسين الجماهير الغربية التي أشادت سابقاً بكتابه الذي فضح الإجرام السوفياتي، قرّر الكاتب أن يستهدف الجماهير الروسية حصراً. طُبِعت حوالى عشرين مليون نسخة، فاقتنع القراء الروس بدعوات سولجينتسين إلى توسيع حدود روسيا لتحقيق «خلاص روحي وجسدي لشعبنا». كان الرئيس الروسي المرتقب بوريس يلتسين واحداً من هؤلاء القرّاء، وقد تأثّر هذا الأخير بالكتاب وفق المؤرخ فلاديسلاف زوبوك، فأعلن أن الأوكرانيين والروس «أمّة واحدة فرّقتها الكوارث الجيوسياسية وعمليات الغزو الخارجية».
لكن يبدو أن اقتراحات سولجينتسين السياسية أثّرت أيضاً برئيس روسي مستقبلي آخر: بوتين. لن نتأكد مطلقاً من إقدام بوتين على قراءة كتاب سولجينتسين، لكن من الواضح أن رئيس الكرملين الحالي كان معجباً بتوصياته السياسية، لا سيما الأفكار المرتبطة بنزعته القومية.
برأي أحد المحلّلين، كان يسهل أن نلاحظ تحوّل سولجينتسين إلى «مرشد بوتين الروحي». لم يكن سولجينتسين مجرّد «قومي روسي صريح»، كما ذكر الصحافي روبن أشيندن يوماً: على مر السنين التي تلت نشر كتاب Rebuilding Russia، يبدو أن سولجينتسين تابع الانغماس في نوع من الهوس القومي الذي بدأ يحرّك بوتين لاحقاً. بحلول منتصف التسعينات، بدأ سولجينتسين يزعم أن الانهيار السوفياتي يشتق من «هدف أميركي مشترك يقضي باستعمال كلّ الوسائل الممكنة، وبغض النظر عن العواقب، لإضعاف روسيا». (تتجاهل هذه الفكرة طبعاً مساعي إدارة جورج بوش الأب للحفاظ على تماسك الاتحاد السوفياتي ومنع انفصال أوكرانيا عنه). بعد فترة غير طويلة، افترض سولجينتسين أن «الثورة البرتقالية» الديموقراطية في أوكرانيا لم تكن مجرّد دليل على «تخطيط حلف «الناتو» لمحاصرة روسيا»، بل يتعلّق هدفها الحقيقي «بضمّ مساحات شاسعة من الأراضي، التي لم تكن يوماً جزءاً من أوكرانيا التاريخية، إلى الدولة الأوكرانية الحديثة بالقوة وجعلها جزءاً من سياسة الانتساب إلى «الناتو» بأي ثمن».
بعد مرور سنوات، يصعب التمييز بين تعليقات سولجينتسين وخطاب بوتين في شأن أوكرانيا. على غرار سولجينتسين، يعتبر بوتين بعض الأراضي الأوكرانية، مثل شبه جزيرة القرم ومنطقة «نوفوروسيا» المزعومة روسية بطبيعتها. وعلى غرار سولجينتسين أيضاً، يظن بوتين أن الروس الأصليين في أوكرانيا يواجهون «حملات قمع متعصبة واضطهاداً للغة الروسية». كذلك يبدو بوتين مقتنعاً، مثل سولجينتسين، بأن روسيا «لا تستطيع أن تتخلى عن وحدتها مع الروس الأصليين في أوكرانيا في أي ظرف من الظروف».
لم يكن مفاجئاً إذاً أن يطرح سولجينتسين نفسه كواحد من مؤيدي سياسات بوتين بعد العام 2000. أشاد سولجينتسين بحملة «إعادة إحياء روسيا» التي أطلقها بوتين، وتلقى جائزة حكومية عن إنجازاته الثقافية من الكرملين، واعتُبِر جزءاً من استراتيجية الكرملين المضادة للثورات. نتيجةً لذلك، أصبح هذا الكاتب المشهور «الزعيم غير الرسمي للنخبة المثقفة القومية الروسية» برأي الصحافي توميوا أوولادي.
بلغت تلك الأحداث ذروتها خلال اجتماع مباشر بين بوتين وسولجينتسين، قبل وفاة هذا الأخير بفترة قصيرة في العام 2008. جلس بوتين وراء طاولة صغيرة، وسط رفوف من الكتب، وتكلم مع الكاتب المريض عن «مستقبل روسيا». كان ذلك المستقبل يشبه ما دعا إليه سولجينتسين، ولو جزئياً. ذكر بوتين شخصياً أن جزءاً كبيراً من السياسات التي يسعى إلى تحقيقها يتماشى بدرجة كبيرة مع كتابات سولجينتسين، بما في ذلك السياسات المرتبطة بمستعمرات روسيا السابقة والمنتشرة راهناً في أنحاء أوروبا الشرقية، والقوقاز، وآسيا الوسطى.
قد يبالغ من يقول إن بوتين اتكل على مخططات سولجينتسين حصراً لتعزيز هوسه المَرَضي بأوكرانيا وإطلاق أسوأ حرب تشهدها أوروبا منذ قرن من الزمن. عملياً، تحمل القومية الروسية جذوراً عميقة ولا يمكن أن تقتصر على كاتب واحد، ومن المعروف أنها تسبق نشر أعمال سولجينتسين. لكن من الواضح أن سولجينتسين الذي كان يتمتع بمكانة مرموقة، لا سيما في الاتحاد السوفياتي حين كان على وشك الانهيار، هو الذي نظّم مختلف أجزاء القومية الروسية بطريقة لم يستطع مؤيدو استرجاع الأراضي أو القادة الروس المستقبليون مقاومتها. كان سولجينتسين يدعو إلى استعادة الأراضي ويبرر هذا النوع من الحملات، وقد شارك في بناء أسس هذه الأفكار في العام 1990 تمهيداً لنشوء الإمبريالية الجديدة في المراحل اللاحقة، حتى أنه رسّخ القناعة الروسية الشائعة حول غياب ما يُسمّى أوكرانيا الحديثة والمستقلة وانتمائها إلى روسيا.
قد يشير المدافعون عن سولجينتسين إلى المقاطع التي تستخف بالنزعة العسكرية كوسيلة لتوسيع الحدود الروسية في كتابه، فهو تطرّق إلى هذه المسألة قائلاً: «إذا أراد الشعب الأوكراني أن ينفصل عن روسيا فعلاً، لن يجرؤ أحد على منعه بالقوة». لكن يبدو هذا العذر مشبوهاً أيضاً. بعد سنوات على تصويت الأوكرانيين، في أماكن مثل شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس، على قرار الاستقلال عن موسكو، أصرّ سولجينتسين على رفض اعتبار تلك المناطق أوكرانية. ونظراً إلى دعمه المستمر لبوتين في السنوات الأخيرة من حياته (حتى بعدما زعم الرئيس الروسي أن أوكرانيا «ليست بلداً بحد ذاته»)، لا يمكن تصديق ذلك العذر لمجرّد الدفاع عنه.
في الوقت نفسه، لا يمكن تبرير تجاهل الغربيين للقومية الصريحة التي لوّح بها سولجينتسين وإصرارهم على الاستخفاف بها في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي. يبدو أن الغرب فضّل التركيز على معاداة سولجينتسين للسوفيات، لكنه أغفل بذلك عن الأفكار الإمبريالية التي طرحها هذا الكاتب وعمق ترسّخها داخل الكرملين خلال السنوات اللاحقة. بدل مواجهة حملة سولجينتسين التي تدعو إلى استرجاع الأراضي مباشرةً، فضّل الغرب تجاهل هذا الموضوع على أمل أن تخمد النيران التي تغذّي هذا النوع من الآراء من تلقاء نفسها. سبق وطبّق الغرب مقاربة مشابهة مع عدد كبير من القوميين الروس الآخرين، واستمر النهج نفسه أيضاً بعدما أقدم بوتين على توسيع نطاق الغزو في العام 2022. لكن مرّت أكثر من ثلاثة عقود منذ أن دعا سولجينتسين إلى نشوء اتحاد روسي، ويبدو أن تلك النيران القومية لن تخمد في أي وقت قريب. لهذا السبب، يجب أن يعتبر الغرب أفكار سولجينتسين واستعداد بوتين لتطبيقها تهديداً متواصلاً على استقرار أوروبا ومفهوم الوطن الأوكراني بحد ذاته. لم يعش سولجينتسين ليشاهد عودة الاتحاد الروسي الذي كان يحلم به، لكنّ غياب ذلك الاتحاد حتى الآن لا يرتبط بعدم استعداد بوتين لتحقيق هذا الهدف، بل ينجم فعلياً عن تضحيات الأوكرانيين.