خلال الأسابيع التي تلت هجوم حركة «حماس» على إسرائيل في 7 تشرين الأول من السنة الماضية، أطلق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، تحذيرات متكررة إلى الأطراف المتورطة في الحرب ودعاها إلى توخي أقصى درجات الحذر، وشدّد بشكلٍ خاص على أهمية الامتناع عن استعمال المجاعة كسلاح حرب. لكن بعد مرور 6 أشهر وانتشار «مجاعة شاملة» في غزة وتهجير أكثر من 75 في المئة من سكانها، أحدث احتمال أن تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق كبار المسؤولين الإسرائيليين، بما في ذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ضجة كبرى في وسائل الإعلام الإسرائيلية والدولية.
قال نتنياهو في أحد الفيديوات الأسبوع الماضي: «إسرائيل تتوقع من قادة العالم الحرّ أن يقفوا بكل قوة في وجه الهجوم المشين الذي تشنّه المحكمة الجنائية الدولية ضد حق إسرائيل الراسخ في الدفاع عن نفسها».
شكّك الكثيرون بصلاحيات المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك الحكومة ووسائل الإعلام الأميركية، ودعوا المحكمة إلى التراجع عن قرارها، لكن يحق لهذه المحكمة أن تصدر أحكامها حول شرعية تحركات إسرائيل و»حماس» خلال الحرب. في ما يلي بعض الأسباب.
ما هي المحكمة الجنائية الدولية؟
تأسست هذه المحكمة الدولية في العام 2002، وهي تستطيع محاكمة الأفراد المتّهمين بأي سلوك إجرامي، بما في ذلك الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والعدوان.
على عكس محكمة العدل الدولية الواقعة أيضاً في لاهاي والمكلّفة بإصدار الأحكام حول مسؤوليات الدول، لا تُصدِر المحكمة الجنائية الدولية لوائح اتهام ضد أي دولة أو فرد. قال نتنياهو في تصريحه خلال الأسبوع الماضي إن مذكرات الاعتقال التي تنوي المحكمة الجنائية الدولية إصدارها تعني اتهام إسرائيل بارتكاب الجرائم. لكنها نظرة خاطئة. تقتصر الملاحقات القضائية التي تقوم بها هذه المحكمة على إجراءات مثل مساءلة الأفراد في شأن تصرفاتهم التي تدخل في خانة جرائم مزعومة، لكن لا تستطيع المحكمة الجنائية الدولية أن تتهم دولة إسرائيل أو مواطنيها.
هل تملك المحكمة الجنائية الدولية أي سلطة على المواطنين الإسرائيليين؟
تستطيع المحكمة الجنائية الدولية أن تحاكم مواطنين من أي دولة ملتزمة بنظام روما الأساسي، ويمكنها أن تلاحق الجرائم المرتكبة في أراضي الدول المنتسبة إلى المعاهدة، وبغض النظر عن انضمام دولة المدعى عليه إلى نظام روما الأساسي.
قد لا تكون إسرائيل جزءاً من المعاهدة، لكنّ فلسطين منتسبة إليها. لهذا السبب، تستطيع المحكمة الجنائية الدولية أن تحاكم المسؤولين الإسرائيليين بتهمة التواطؤ في الجرائم المزعومة التي ارتكبها جنود الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. في المقابل، تملك المحكمة صلاحية ملاحقة أعضاء فرديين من حركة «حماس» (باعتبارهم مواطنين فلسطينيين) بتهمة ارتكاب جرائم دولية في إسرائيل أيضاً.
استُعمِل المبدأ القانوني نفسه في قضية روسيا غير المنتسبة إلى نظام روما الأساسي. في العام 2022، دعت مجموعة من 39 دولة، بما في ذلك فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، المحكمة الجنائية الدولية إلى إجراء تحقيق حول الغزو الروسي لأوكرانيا، ما دفع المحكمة إلى إصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب على الأراضي الأوكرانية، وهي خطوة أشاد بها الرئيس الأميركي جو بايدن.
لهذا السبب، سيكون رفض الاعتراف بقدرة المحكمة الجنائية الدولية على فرض سلطتها على المواطنين الإسرائيليين بعد تقبّل هذه الخطوة مع المواطنين الروس موقفاً متناقضاً.
ما سبب الجدل الراهن؟
قال قاضي المحكمة العليا روبرت جاكسون، عشية تعيينه مدعياً عاماً رئيسياً عن الولايات المتحدة في محاكمات نورمبرغ: «لا يمكننا أن نتعاون مع بقية دول العالم لفرض حُكم القانون إلا إذا كنا مستعدين لتقبّل استعمال القوانين ضد مصالحنا الوطنية أحياناً». تعكس هذه القاعدة مجموعة من النوايا الحسنة التي يُفترض أن تُوجّه مواقف المسؤولين من أهم محاكم العالم.
من خلال الاستفسار عن تهمة معيّنة، تُركّز المحكمة الجنائية الدولية بشكلٍ خاص على التأكد من مسؤولية المدعى عليه عن ارتكاب الجريمة بموجب القانون الدولي. لا يكون هذا التحقيق مسيّساً ولا يسمح بأي تدخّل سياسي.
من المؤسف ألا تبدي بعض الدول استعدادها لدعم المحكمة، لا سيما في إجراءات تنفيذ مذكرات الاعتقال، إذا كانت تلك المذكرات تستهدف أصدقاءها وحلفاءها. على سبيل المثال، عجز عدد كبير من حكومات أفريقيا والشرق الأوسط، بما في ذلك جمهورية الكونغو الديموقراطية، والأردن، ومالاوي، ونيجيريا، وجنوب أفريقيا، عن اعتقال الرئيس السوداني السابق عمر البشير حين سافر إلى تلك البلدان.
نتيجةً لذلك، لم يُنفَذ عدد كبير من مذكرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة. في بعض الحالات، أدلت دول أعضاء مثل كندا، وألمانيا، ونيجيريا، والمملكة المتحدة، بتصريحات علنية لدعم حلفائها السياسيين أمام المحكمة، مع أن هذا النوع من المواقف يُعتبر مسيّساً لأقصى حد ويميل إلى إضعاف مكانة المحكمة على الساحة العالمية.
ما هي تداعيات لوائح الاتهام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية؟
لم تتأكد هذه المعلومة بعد، لكن من المتوقع أن تشمل مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق المسؤولين الإسرائيليين اتهاماً باستعمال المجاعة كسلاح حرب في غزة، استناداً إلى تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بحد ذاتهم ونظراً إلى منع وصول المواد الغذائية والمساعدات، وهو وضع استنكره الكثيرون.
لكن لا تعني مذكرات الاعتقال ولوائح الاتهام أن المتّهمين يُعتبرون مذنبين تلقائياً. تزامناً مع استمرار تحقيق المحكمة الجنائية الدولية، يحتفظ المدعى عليه ببراءته طوال هذه الفترة ويحصل على كلّ الفرص اللازمة للدفاع عن نفسه. وفي نهاية المحاكمة، يقرر القضاة الثلاثة، بغالبية الأصوات، ما إذا كانت الأدلة التي قدّمها المدعي العام ضد المدعى عليه تتماشى مع معيار إثبات الإدانة المعمول به. يُعتبر هذا السقف من المعايير مرتفعاً جداً.
تتعدد القضايا التي قرر فيها القضاة في المحكمة الجنائية الدولية إدانة المدعى عليهم بعد الالتزام بأعلى معايير إثبات الإدانة، لكن قرر القضاة في قضايا أخرى تبرئة المدعى عليهم في نهاية المحاكمات أو قضايا الاستئناف.
تبرز أمثلة عدة في هذا المجال، منها قضية رئيس ساحل العاج السابق لوران غباغبو ووزيره شارل بلي غوديه، فقد تمت تبرئتهما خلال المحاكمة. كذلك، تغيّر الحُكم الصادر بحق جان بيار بيمبا، سيناتور كونغولي سابق ونائب رئيس البلد، بعد استئناف الحُكم الأولي.
في النهاية، يتعلق السؤال المحوري اليوم بمعنى مذكرات الاعتقال بحق المسؤولين الإسرائيليين. بناءً على تجارب المحكمة الجنائية الدولية السابقة، لا تعني هذه المذكرات حصول اعتقالات ومحاكمات فورية. لم يتعرّض عمر البشير للاعتقال أو المحاكمة حتى الآن، مع أن مذكرة الاعتقال صدرت بحقه في العام 2009. حتى أنه تابع السفر إلى دول صديقة امتنعت عن اعتقاله لفترة طويلة قبل إسقاطه في نهاية المطاف. برّرت تلك الدول موقفها على اعتبار أن القانون الدولي المعمول به يمنحه حصانة بسبب مكانته كرئيس دولة. لكن في العام 2019، أعلنت غرفة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية بكل وضوح أن هذه الحصانة تتلاشى في القضايا القائمة أمام المحاكم العالمية، لا سيما المحكمة الجنائية الدولية.
بعبارة أخرى، تتعلق أبرز مشكلة فورية يواجهها المسؤولون الإسرائيليون، بسبب مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، بضرورة أن تعتقل 124 دولة عضواً في المحكمة هؤلاء المسؤولين انطلاقاً من واجبها القانوني في حال سافروا إلى واحدة من تلك الدول. يجب ألا يستخف أحد بهذا الواجب، فقد ألغى بوتين في السنة الماضية خططه لحضور قمة مجموعة «بريكس» في جنوب أفريقيا لأن بريتوريا كانت ملزمة باعتقاله.