أليس بانيير

السياسة البريطانية الخارجية والدفاعية على مفترق طرق

22 آب 2020

المصدر: War On The Rocks

02 : 00

إنها سنة مفصلية في مجال السياسة البريطانية الخارجية والدفاعية! تنشط المملكة المتحدة راهناً على خطَّين أساسيّين قد يؤثران على أمنها القومي طوال أجيال قادمة. من جهة، يتفاوض البلد حول اتفاق قد يُضعِف "علاقته المستقبلية" مع الاتحاد الأوروبي، لا سيما على مستوى التجارة. هذه العملية معقدة ومشحونة سياسياً ويُفترض أن تنتهي مع نهاية السنة (سرعتها قياسية نسبةً إلى هذا النوع من المفاوضات!). قد يعني تفويت هذه المهلة النهائية أن تقوم بريطانيا بأعمال تجارية مع الاتحاد الأوروبي بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية، ولهذا الوضع تأثير خطير على الاقتصاد البريطاني. من جهة أخرى، تقوم الحكومة البريطانية منذ بداية هذه السنة بمراجعة كاملة للسياسات الأمنية والدفاعية والتنموية والخارجية. تشكّل هذه المراجعة عملية طموحة لتحديد أولويات بريطانيا وتحالفاتها عبر تقييم التحديات الاستراتيجية المطروحة بطريقة شاملة. يُقال إن نتيجة تلك المراجعة ستُمهّد لوضع خطة جديدة تخدم المصالح الأمنية البريطانية بعد حقبة "بريكست".

يُعتبر التعاون بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي أساسياً للحفاظ على أمن المنطقة. منذ أن صوّتت بريطانيا على قرار الانسحاب من الاتحاد في العام 2016، أبدت لندن وبروكسل رغبتهما في تطوير شراكة طموحة على مستوى السياسات الدفاعية والخارجية. لكن تغيّر الوضع كله حين أصبح بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني في الصيف الماضي. في تحوّلٍ صادم للأحداث، أعلن هذا الأخير أن حكومته لن تتفاوض حول اتفاق دفاعي وخارجي كجزءٍ من المفاوضات القائمة مع الاتحاد الأوروبي، مع أن هذه المواضيع كانت واردة في الإعلان السياسي حول "العلاقة المستقبلية" التي وقّع عليها جونسون مع بروكسل في السنة الماضية.علاقة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي ليست العلاقة الوحيدة التي لا تزال في مهب الريح. منذ العام 2017، اضطربت العلاقات بين لندن وواشنطن بقوة بسبب الرئيس دونالد ترامب. من كان ليتوقع يوماً أن يعمد رئيس أميركي إلى توبيخ رئيس الوزراء البريطاني باستمرار خلال المكالمات الهاتفية وألا يعرف أن المملكة المتحدة تملك أسلحة نووية؟ في عهد ترامب أيضاً، من المعروف أن الولايات المتحدة تبنّت سلوكاً عدائياً وقسرياً على نحو غير مألوف في تعاملها مع حلفائها الأوروبيين في مجال السياسة الخارجية. حاولت واشنطن مثلاً إجبار الأوروبيين على تجديد آلية الخلاف حول "خطة العمل الشاملة المشتركة" في شهر كانون الثاني الماضي عبر التهديد بفرض رسوم جمركية على السيارات الأوروبية.

رداً على المقاربة الدبلوماسية الأميركية، أعلن وزير الدفاع البريطاني بن والاس في إحدى المقابلات أن بريطانيا يجب أن "تُنوّع" مواردها الاستخبارية لتخفيف اتكالها على "الغطاء الجوي الأميركي والاستخبارات وأدوات المراقبة والاستطلاع الأميركية". يتّكل الردع النووي والقطاع الدفاعي في بريطانيا على التعاون الأميركي أيضاً. إذا انتُخِب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة في تشرين الثاني المقبل، سيتجدد زخم حلف الناتو والعلاقات العابرة للأطلسي حتماً، لكنّ المشاكل داخل الحلف ستبقى قائمة. مع ذلك، من المتوقع أن يسمح هذا الوضع للندن بمتابعة استثمارها في هذه العلاقة العابرة للأطلسي بدل الاتكال على دفاعات الاتحاد الأوروبي. لكن إذا فاز ترامب بولاية رئاسية ثانية، سيحمل الرهان على "العلاقة الخاصة" مع واشنطن مجازفة كبرى.





ستتحدد الخيارات الاستراتيجية التي تملكها بريطانيا عبر بنود "بريكست" وهوية الرئيس الأميركي المرتقب، وحتى التهديدات الأمنية التي يواجهها البلد. ستكون مراجعة الأمن القومي العابرة للحكومة أساسية لتحديد السياسة الخارجية والدفاعية البريطانية. قام مجلس الأمن القومي بتلك المراجعة، بقيادة رئيس الوزراء، ومن المنتظر أن تكون الأكثر تطوراً منذ نهاية الحرب الباردة.

يجب أن تعالج المراجعة الجديدة التطورات التكنولوجية والاستراتيجية الأخرى التي ظهرت أو اشتدّت منذ نشر مراجعة الأمن والدفاع الاستراتيجي في العام 2015. صدرت المراجعة السابقة بعد سنة على ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم وتزامنت مع عودة التشكيلات العسكرية الكبرى والقابلة للنشر وتجدّد منصات العمليات الاستكشافية. قد تتناول المراجعتان التهديد الذي تطرحه روسيا ومخاطر الإرهاب غير المتكافئة. لا تزال هذه التحديات الأمنية مستمرة وتُقيّم المداولات الراهنة في لندن إثر التطورات التكنولوجية في قطاع الذكاء الاصطناعي وسلوك الصين الصارم. نتيجةً لذلك، يجب أن ترتبط إحدى المسائل التي تحتاج إلى حل بالتوازن اللازم بين المهام العسكرية التقليدية والإمكانات المتاحة في بريطانيا، فضلاً عن طرح شكلٍ نظري من القوة العسكرية.

أدى انتشار فيروس "كوفيد - 19" إلى تأخير مسار المراجعة (كان يُفترض أن تنتهي وثيقة المراجعة الشاملة بحلول تموز 2020 لكنها تأجلت الآن إلى أواخر الخريف المقبل). في الوقت نفسه، سرّع الوباء المستجد جزءاً من التحديات التي تهدف المراجعة إلى معالجتها. ذكر مجلس الأمن القومي البريطاني في بداية تموز 2020 أن الوباء دفع المسؤولين عن التقرير إلى التركيز على المنافسة الجيوسياسية المحتدمة وتأثيرها على فرص التعاون مع الآخرين في مسائل عالمية مثل الصحة وأمن سلاسل الإمدادات الدولية في القطاعات الاستراتيجية. كانت بريطانيا أول دولة غربية تستطيع إدراج تقييم استراتيجي عميق حول ميزان القوى المتبدّل (بسبب تنامي نفوذ الصين مثلاً) وآثار الوباء على سياستها الدفاعية. ستكون هذه الخطوة مبادرة مفيدة لشركائها أيضاً.

قد تصبح المسـائل المتشـــابكة حول الصين والتبعيـــة التكنولوجية عوامـــــل حاسمة في الحسابـات الاستراتيجية الخاصـــــة بأي بلد. نتيجة الضغوط الأميركية واعتراض أعضاء من حزب جونسون، غيّرت الحكومة البريطانية حديثاً موقفها من شركة "هواوي". تترافق هذه الخطوة مع تداعيات كبرى في أنحاء أوروبا. في ما يخص الصين و"هواوي"، تواجه البلدان الأوروبية وبريطانيا المعضلات الاستراتيجية نفسها، وقد تحاول لندن التوفيق بين المقاربات الأوروبية والأميركية للتعامل مع التحديات الأمنية التي تطرحها الصين.

يواجه شركاء آخرون لبريطانيا الوضع نفسه، بما في ذلك أعضاء الشبكة الاستخبارية الخماسية (الولايات المتحدة، كندا، أستراليا، نيوزيلندا) واليابان التي ترغب لندن في تطوير علاقاتها الاستراتيجية معها، على أن تشمل قطاع المعادن والإمدادات الطبية. كذلك، يبدو أن بريطانيا تقود المبادرة الدبلوماسية المعروفة بـ"الديمقراطيات العشر": إنها مجموعة من الأنظمة الديمقراطية التي اقترحتها لندن كي تضمّ مشاركين من مجموعة الدول الصناعية السبع بالإضافة إلى أستراليا والهند وكوريا الجنوبية. عملياً، يجب أن تتعاون الديمقراطيات الليبرالية في أنحاء العالم لتحديد القوانين والمعايير الأخلاقية المحيطة بالذكاء الاصطناعي وتطورات تكنولوجية أخرى.





للتركيز على طموحات السياسة الخارجية ومعالجة التحديات الاستراتيجية الجديدة، لا بد من القيام باستثمارات كبرى في مجالات الدبلوماسية والتنمية وميزانيات الدفاع. في هذا السياق، من المتوقع أن تُقيّم المراجعة الجديدة الإنفاق العسكري. في العام 2019، كشف تحقيق برلماني أن بريطانيا ستواجه فجوة بقيمة 14.8 مليار جنيه استرليني (19.1 مليار دولار) بين نفقات الدفاع المتوقعة والميزانيات المُخطّط لها خلال الفترة الممتدة بين العامين 2018 و2028. لا تُعتبر ميزانيات الدفاع الضيقة ظاهرة جديدة في لندن. لكن من المنطقي أن يزداد الوضع سوءاً بسبب أزمة فيروس كورونا. تراجع الناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا بنسبة 2.2% خلال الربع الأول من العام 2020، أي ما يفوق بدرجة بسيطة التراجع المُسجّل في الربع الرابع من العام 2008 (2.1%) خلال الأزمة المالية الكبرى، وقد تلته زيادة في الإنفاق الدفاعي بنسبة 14.7% بين العامين 2009 و2014. وإذا لم يتم الاتفاق على أي صفقة تجارية مع الاتحاد الأوروبي بحلول الخريف المقبل، من المتوقع أن تؤدي التداعيات الاقتصادية المرافقة لخطة "بريكست" إلى تفاقم المشكلة.

قد يكون رفض لندن المشاركة في المفاوضات مع بروكسل حول السياسات الدفاعية والخارجية مقلقاً في الوقت الراهن، لكن بدأ التعاون مع الاتحاد الأوروبي يأخذ مجراه في مسائل الأمن الداخلي. وبعيداً عن الاتحاد الأوروبي، يستمر التعاون الثنائي أو الثلاثي مع الشركاء الأوروبيين أيضاً. في النهاية، سيترافق نجاح أو فشل بريطانيا في عقد صفقة تجارية مع الاتحاد الأوروبي قبل انتهاء هذه السنة مع تداعيات استراتيجية كبرى تفوق بتأثيرها نتائج التوقيع على اتفاق مع بلد ثالث للمشاركة في الإطار الدفاعي الخاص بالاتحاد الأوروبي.

تتطلب التحديات الأمنية المستجدة إقامة شراكات أمنية جديدة وتشكّل خطة "بريكست" فرصة مناسبة رغم غرابتها للتفكير بهذه المسألة في لحظة مفصلية. برأي بريطانيا والاتحاد الأوروبي وشركائهما في أنحاء العالم، قد يعطي التعاون مع الولايات المتحدة حول سياسة التعاطي مع الصين وأمن سلاسل الإمدادات في القطاعات الاستراتيجية والتقنيات الناشئة منافع كبرى، حتى لو فاز ترامب بولاية رئاسية ثانية. كانت العلاقات بين لندن وواشنطن متوترة في السنوات الأربع الماضية، لكن تبقى الروابط بين بروكسل والولايات المتحدة أسوأ منها بعد. في هذه السنة المفصلية على مستوى السياسة الخارجية البريطانية، يجب أن تحاول بريطانيا التصرّف وكأنها جسر تواصل بين الأطراف المعنيّة وتتجنب توسّع الفجوة في بحر المانش والمحيط الأطلسي.


MISS 3