جولي مراد

ليست رصاصة طائشة

22 آب 2020

02 : 00

فلنقلها بفمٍ ملآن وبصراحةٍ فجة: إنّه الشعب أيضاً. لا تتحمّل الدولة وحدها وزر ما يعصف بالبلاد من أهوال ومصائب، معظمها صنيع قادةٍ مستفيدين من غياب الدولة وتغييبها، وجزءٌ لا يستهان به مزيجٌ تراكميّ من عادات وتقاليد متجذّرة في أذهان متحجّرة ترفض التمدّن والانفتاح على أي تطوّر سلوكي أو فكريّ. إذ كيف لِمن لدِغ من جحرٍ مئات المرات أن يعيد التجربة نفسها مع ما تحتمله من مآسٍ مضمونة ومصائب لا تحمد عقباها حيث لا تدعو الحاجة؟ فكم من قتيل سقط حتى اليوم برصاص متفلّتٍ في أفراح وانتصاراتٍ ونجاحاتٍ تتحوّل أتراحاً ومسيراتٍ سوداً تشييعاً لتعيس الحظ المتواجد بمكان غير مناسب وفي لحظةٍ غير حميدة. كم من الابتسامات تحوّلت دموعاً حارقة، وكم من العائلات بكت أفراداً خطفوا في لحظة غدرٍ عبثية؟ ليس لاعب كرة القدم محمد عطوي أول من تطاوله رصاصة تغيّر حياته رأساً على عقب، والأسوأ هنا الحتمية المخيفة بأنّه لن يكون الأخير.

هو قدر اللبنانيين أن ينصاعوا مرغمين الى أحداث أليمة ومأسوية، لا ناقة لهم فيها ولا جمل غالباً، سوى أنهم ولدوا في بقعة جغرافية ملعونة. ولكنهم، وفيما يوغلون في أي حزنٍ كئيبٍ أو فرح عارمٍ، لا يتوانون عن استيلاد فواجع يصنعونها بأيديهم وكأنهم لا يجيدون سوى استجرار المصائب.

لا يتقن اللبنانيّ فنّ العيش في مجموعة. يمقتُ لياقةً يفرضها عليه منطق الجماعة. لا وجود للآخر في قاموسه. شخصه الكريم هو البداية والنهاية، الفيصلُ في كلّ معطى ومآل. مصيبته أنه فرديّ بامتياز. كلّ ما في حياته قائم على هذه المعادلة العوجاء، فهو لا يفكر لهنيهةٍ خارج محيطه المباشر، فلا قلق يعتريه لما يدور خارج منزله، أو سيّارته، أو مساحة عمله أو لهوه. كلّ ما يقع خارج مربّعه لا يمسّه في الصميم وإن فعل عرضةً يُقصى بعجلٍ الى دهاليز النسيان. وهو وحده الآمر الناهي في محيطه، ورغباته أوامر ليس لأيّ كان انتهاك قدسيّتها. وهكذا تجده مستسهلاً رمي قذاراته من شباك سيارته بلا ورعٍ طالما لا تستوطن بقعته الخاصة، او يعاند مكابراً ضرورات "الفرز المنزلي" متّبعاً مبدأ "شو وقفت عليّي" التي باتت مقبرةً لأمل بناء وطن لائق. وكم نراه يزاحم بعنفٍ مستشرسٍ منتزعاً أحقية مرور مُخالِفة ببطشٍ معيب، أو يطلق العنان لمذياعه في أوقاتٍ متأخرة يفترض ألا يقلق فيها هناء الحيّ، أو يأبى الوقوف في الصفّ بالمصرف أو السوبرماركت أو الدكان أو لدى بائع المناقيش. وكم ألفيناه يفاخر بنرجيلةٍ يشربها في أماكن مغلقة غير مخصصة للتدخين، أو يغادر محمياتٍ بيئية بعد تمتعه بجمالها مفرغاً فيها كلّ ما في جعبته من قمامة وأوساخ.

ليست رصاصة طائشة تلك التي طاولت محمد عطوي، بل هو شعبٌ لا يجيد العيش في بيئةٍ متمدّنة. شعبٌ شهدنا منه ما يكفي من قلّة أخلاق وفظاعات، بحيث بتّ لا تستغرب أن يرتضي مطعم "ليزا"، المدّعي الرقيّ زوراً، إقامة عرسٍ بدبكٍ وطبلٍ وزمر وبلا خجلٍ في حيّ الأشرفية المكلوم بعد بضعة أيام من الانفجار المشؤوم وبعزّ يوميات النحيب والتشييع.

ليست رصاصة طائشة تلك التي أصابت عطوي بل هو شعبٌ طائش يرقصُ ببلاهةٍ فرحاً في مستنقعٍ من الوحول.