كيف تصل الأموال الصعبة إلى جيوب اللبنانيين في زمن الإنهيار والضيق، وأين تنفق هذه الأموال وكيف؟ لم يشهد لبنان، في عزّ الإزدهار، بين بداية الخمسينات ومنتصف السبعينات من القرن الماضي، مثل هذه الفورة وهذا الفيض في عرض المسرحيات وإقامة المهرجانات الموسيقية والحفلات الصاخبة على أنواعها، ولم تبلغ الحجوزات، في الفنادق والمطاعم والشقق المفروشة، ما بلغته اليوم. ولم تشهد طرقات لبنان ازدحاماً في السير، كما هو الحال اليوم، ولم يعرف اللبنانيون، من قبل، هذا الإقبال على السفر، خصوصاً إلى أوروبا، لقضاء إجازة في أفخم الفنادق- ومنهم من يقطع بطاقة سفر درجة أولى من أجل تناول غداء أو عشاء وتمضية بضع ساعات في شوارع باريس ولندن وروما.
نعم، إنّه طبق دسم كلّما اجتمع إثنان وحديث طويل فيه الكثير من العجب والتساؤل. نعم، وبمعزل عن أصحاب الأموال الملتبسة وسارقيها، فالتفسير لهذه الظاهرة ليس صعباً، كما يظنّ كثيرون. إنّها بكل بساطة الأعجوبة اللبنانية التي تُغذّي استمرارية شعب أمضى خمسين سنة في البحث عن الحياة. إنّها قوّة الحياة لدى شعب ذاق ويذوق طعم القهر والعذاب، منذ نصف قرن، وسعى ويسعى، منذ نصف قرن، لقهر القهر. إنّها الأعجوبة اللبنانية المقرونة بهستيريا الإنفعال أو تصريف الإنفعال défoulement. فاللبنانيون لا يبخلون بأموال ادّخروها في جواريرهم وفي حساباتهم خارج البلاد، وقد استطاعوا أن يحافظوا عليها رغم أنوف المصارف، كما أنّها أموال فلذات الأكباد الذين يكدّون في بلاد الاغتراب. وعلى الرغم من أنّ وطننا لم يتذوّق منذ خمسين عاماً طعم الدولة وهيبتها، ولم ينعم منذ ذلك الزمن بحكّام أهمّ ما يحتاجون إليه صفات ثلاث: الكتمان والزهد والإستقلالية. وعلى الرغم من الآلام التي تسبّبت بحفريّات عميقة في الوجدان اللبناني، ترى مصايف لبنان وقراه تتلألأ بأبهى حللها، ويثبت أبناء هذا البلد الصغير من جديد أنّهم جديرون بحياة طبيعية عاشقة للجدّ والمرح، للعيادة والمكتب، للمطعم والسهر، لإدارة شؤون البيت من الداخل والخارج، من لبنان والمهجر.
مهرجانات مدنهم، من بعلبك إلى بيبلوس وبيت الدين وغيرها الكثير، محفوظة في ذاكرة الماضي ودفاتر الحاضر والمستقبل، لا لتدلّ على حقبة من تاريخ لبنان، هي حقبة الجمال والحبّ والسلام وحسب، بل لتمثّل أيضاً مكانة آثار العالم القديم وتختصر مكانة شعب «ما أحبّ لبنان لأنّه مسقط رأسه ورؤوس أجداده وأجداد أجداده بل لأنّه- على ما كتب ميخائيل نعيمة- طاف بعيداً في بلاد الله ولم يرَ بقعة توافرت له فيها بالروعة والحسن والجمال كما توافرت في لبنان». المهرجانات في لبنان مدرسة نمّت نهضة حضارة فكريّة وثقافيّة وفنيّة تفرّعت منها مدارس على مساحة الوطن من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه ومن أقصى بحره إلى أقصى شرقه.
ومن الوطن إلى خارجه على امتداد المساحات الكونية.
اليوم، وسط الغليان وفي عزّ التقلّبات التي تشهدها المنطقة، يجدر نقل ما ذُكر في تاريخ قريب عن أهمية لبنان، أمانة هذا الشعب. فقبل عقود أربعة، في تركيا، نُقل عن أحد النوّاب الأتراك المتحمّسين لرئيس الحكومة التركي آنذاك «بولنت أكاردجاري» التلميذ السابق في الليسيه الفرنسية في اسطنبول، أنّه يشجّع على إقامة ثنائية فرنسية تركية بين جاك شيراك- وتورغوت أوزال، في موازاة ثنائية شيراك - صدّام حسين. وعطفاً على لقاءين بينهما رأى النائب نفسه أنّ اللقاء الثالث سيكون الأهمّ والأكثر احتفالية سنة 1987، لأنّه عندئذ «سنتيح لفرنسا أن تجد من جديد في اسطنبول قسماً من مركز نفوذ لم تعرف كيف تحافظ عليه في لبنان».
أمّا في واشنطن، فأدلى وزير الخزانة الأميركي وليم سيمون في عزّ حرب تدمير لبنان أنّه «مهما حَلمَ بعض رؤساء الشرق الأوسط بإحلال بلدانهم محلّ لبنان فلن يتمكّنوا من ذلك، حتّى لو دمّر البلد عن بكرة أبيه» وأمام ذهول أعضاء مجلس الشيوخ، أضاف أنّه «حتى أثينا لن تستطيع الحلول محلّ بيروت».
وهكذا، فلا بدّ من الإنحناء أمام شعب لبنان الذي، ورغم كل مآسيه، سينهض وطنه من جديد، متكئاً على تراثه وتاريخه وطيبة أبنائه. ولن تقدر أيّ عاصمة أو قلعة أن تسرق وهج بيروت.