شهيرة. ياسمين. ليلى. أسمهان. 4 نساء من أربعة أجيال من عائلة الدّالي. خرجْن من دهاليز رواية «أغنيات للعتمة» لإيمان حميدان. وصلْن «مَرْسَح» الميناء- طرابلس. حيث قُدّم عرضُ قراءات مُمَسرَحة عن سيرتهنّ، أغنِياتهنّ وعتماتهنّ.
هي حكايةُ أقلّ من قرن بقليل وأكثر من 4 نساء بكثير. تمتدّ من أواخر القرن التاسع عشر إلى ما بعد اجتياح بيروت 1982. سنوات وفجَوات تُفرّق هذه السلالة وتُوحّدها. ذرّيةٌ من خصوبة ومن عقم، من هواء وصخر كتبتْها حميدان. كتابة عن الإنسان والفقدان. «هل يغيّر الفقدان سحنة التراب كما تتغيّر سحنة البشر؟». الفقدان عمود الكتابة مع نساء يخضْن - على طريقتِهنّ - حروبَهنّ الصّغرى والكبرى. صراعات بالجملة. تاؤها مكسورة ذاتيّاً، جَماعيّاً، فكريّاً، نفسيّاً، عاطفيّاً، جنسيّاً، اجتماعيّاً وقانونيّاً. فلا تقف الرواية عند مستوى أوّل. تُعطي مفاتيحَ لأغوار حبكة تسير وفق قانون السَببيّة: كلّ حدث سيُسبّب حدثاً آخر. تُرتَّب الأحداث والعواطف. فترتدي الشخصيةُ سترةً روائية أصيلة طبيعية. قلبها يخطو مع بداية وتأزّم ووضع نهائيّ لا نهائيّ.
هكذا، ينسج القارئ علاقةً مع مصير نساء آل الدّالي. تبدأ وتتكلّل مع الجدّة شهيرة القَديرة. قامر الزمنُ عليها. لم ترمِه بحجارةٍ. لعبت معه. زُوِّجت زوج شقيقتها المتوَفّاة. تغيّرت شهيرة. تبدّلت كرائحة شتلات ياسمين ضيعتها. صورة تعنونُ تبدلّ عبق شهيرة وأهدافها. (وربّما لاحقاً استعادَتْ بعضاً منه في الاسم الذي أطلقتْه على ابنتها: ياسمين). انتقلت شهيرة من قرية إلى أخرى. وصلتْ أرضاً بوراً. لا تصلح لمستقبل. الطريق مع زوجها إلى قريته أنذرَ بهذا المصير. الدرب ترابيّة وعرة كحياتها التي تنتظرها. سارا مع مغيب الشّمس. مشهد يدلّ على شمس جوّانية ستغيب. غير أنّها رسمتْها لتشرق بفطرتها وذكائها. تُماثل الأرضَ الريفيّة الخامّ الصلبة بكلّ مواردها وعطاياها. ومن هذه الأرض ومونتِها، علّمتْ أولادها. شهيرة الدَّبّيرَة أدركت أهميّة العلم للمستقبل. بإصرار، تنتصر لأهدافها. بينها وبين زوجها، تطرد الكلام «كما تطرد فراشة تحوم حول الضوء كي تحميَها من الموت». وبينها وبين روحها، الأغنية صديقتها الأحبّ. تختلي بها في عتمتها. لا تبكي شهيرة. إنّها تغنّي. تملأ أغنيتُها غرفَها المعتمة. تخترع شبابيك لتهوئة «عيون ما بتحكي بس سمعناها» و»دمعة بروحي ضايمة». موّالها كموّال بلادها. أبياتُهما من شجن وحزن. لكنهمّا ما فتئا يسامران الضوء. كتعويذة في وجه الدنيا، صوتُها يورث صدى في سيرتها المتحرّكة. التفاصيل، اليوميّات، التدرّجات والتقلّبات تحرّك وتستثمر هذه الشخصيّة. يحبُّها القارئ. يخترع ملامحَها. ربّما يتخيّل شعرةً بين شفتها وأنفها. رفعتْها كإصبع وسطى في وجه القدر والمجتمع، عوضاً عن صوتها المجروح. جُرحت شهيرة. تكبّدَتْ. كافحتْ. تُوفّيت ابنتها. اختفت حفيدتها. وبقيت شهيرة. وبقيت أغنيتُها الوفيّةَ الوحيدة مع ذاكرتها. هي جذع صلبٌ لشجرة عائلة خرجت من كنفها يمامات. لكلّ منهنّ سماء ومعاناة.
ابنتها ياسمين ماتت شابّةً. عاشت راضخةً. «ترى أنّ كلّ ما يبعثه القدر لا يمكن التغلّب عليه وعليها القبول به». أحلامها لا تُحلّق. تجرّها بقدَمَي بساطة وروتين. ورغم ذلك، تسأل نفسها: «هل الحلم بحياة أفضل صعب إلى هذا الحدّ؟». تشعر أنّها في حفرة و»ان لا أمل بالخروج منها». نُسيَت على الرفّ بزواج وأمومة لم تكتمل. تُوفّيت ليلةَ إنجاب ابنتها ليلى. ياسمين جسرُ عبور صامت بين شهيرة وليلى، الشّخصيتين الأبرز. الحفيدة كبرت في حضن جدّتها والطبيعة والكتب. انخرطت في المجتمع، التمدّن والدراسة. تطوّر وعيُها عن أسلافها. لكنّ مصيرها حُكم بالأسوأ. أُغرمت برجل متحرّر .حطّمها. قذفها إلى زواجها من سالم الآتي من أميركا. هذه النماذج عن التقدّم ما هي إلّا أقنعة تستر ظلماً. عاشت ليلى مشلّعة في عتمتها. هوّتها يزيدها عنف بوجوه مختلفة وحروب وأسلحة متنوّعة. ليلى مثل بلادها، اعتقدت أنّها نالت استقلالها. غير أنّها استقبلتْ هلاكها. وفي الفترة التي اعتُبرت الأكثر ازدهاراً للبنان، ذبلت ليلى واختفت عن حياتها الأولى. ربّما لتعيش ازدهارَها في حياةٍ رديفة! تركت ابناً وابنةً أسمتْها أسمهان.
وُلدت أسمهان قبل أسبوعين من وفاة المطربة في الحادثة المأسويّة. كأنّه سجلّ عائليّ من أغنيات ولَعَنات. جيل بعد جيل، باب تلو باب، الأقفال من صدأ. أسمهان تزوّجت غسان العلمانيّ. وعند مطالبتها بالطلاق، عاد إلى قبيلتِه وشريعته الدّينية للحصول على حضانة ابنه. لذلك، تختار الرحيلَ مع ابنتها لمى. تريد أن تقول «صباح الخير أيّها العالم اللعين، أيّتها الدنيا البائسة». تحاول تغيير ميراث نساء عائلتها. تهرب إلى نيويورك. ومنها، تسرد سنوات وكدمات نساء يعشْن بموتات متعدّدة، إمّا بموت مع صمت أو بموت الواقع و بموت الأمان. روَتْ حيواتٍ فرديّة تُعرَب كجمع مؤنّث في بقعة تولّد أجيالاً وأزمات. صاغت الكاتبة هذا التاريخ بزيتٍ وليس بصمغٍ مصنّع من نقاشات وخطابات. الأحداث الكبرى الوطنيّة والعربية كالحربين العالميتين الأولى والثانية، الاستقلال، النكبة، أنطون سعادة، دكتور داهش، أحداث 58، إفلاس بنك إنترا، إلخ... حضرت على لسان الشخصيّات وتركيبتِها، وحسب تأثيرها على سكّة قطار آل الدّالي. صرّحت الكاتبة إيمان حميدان أنّ هذا القطار بصافراته وأغنياته سيستكمل مسارَه في جزءٍ ثان من الرواية. سيرافق حياة لمى منذ 1982 إلى وقتنا الرّاهن مع أغنيات وفصول بأمطار سياسية أمنية، وزوبعات شعبيّة احتجاجيّة.
قراءات مُمَسرَحة
الرقم 4 أساسٌ. 4 أجيال. 4 جدران تبني غرفةً. أو ربّما قبراً! جدران تعاند عواصف في سيرة نساء «يربطها خيطٌ لامرئي. لا يقطعه سوى الموت، موت الكلام». يتسلّل الموت والكلام نحو الفضاء المسرحيّ مع قراءات ولّفت نصّها ماري طوق. وأخرجت العرض رويدا الغالي وشاركت فيه مع كارتين حرب، رنيم شمص وساندرا بو كروم. حقيقة تواجه حقيقة. تشدّان حبلاً يدور ضمن دائرة حكمَت الحركة الروائيّة. وأتى العرض ليقدّم النساء ضمنها. مبعثَرات. مضمومات. في وسط الدائرة، لا بذور فراغ. ينبتُ الماضي والمستقبل. يلعبان مع أغانٍ رافقت بعضُ مقتطفاتها السيرةَ المُمَسرحة في المفاصل الرئيسية. الأغاني شخصيّة غير ثانوية في الرواية. والأقمشة انضمّت إلى لائحة الشخصيات مع تنقّلات من وحيٍ وروح على المسرح. هذه الروح نُثرت رسائلها. وُضّبت في «الشنطة». الأخيرة جذعٌ ثابت. يقينٌ يرادف عدم يقين. تحملُها أسمهان. «صارت حياتي هون بالشنطة». كبائعة أغنيات وعتمات متجوّلة، تروي حكايات دُفنت في الأرحام أو في المقابر. حكايات من سراديب. ستُشيَّع مع عتمتِها أو ستلمع في بواطنها براكينُها.