مايكل سوبوليك

طموحات الرئيس الصيني الإمبريالية متجذّرة في تاريخ الصين

المصدر: test sgdfkahsdjha adh

لم تكن الصين الجهة العدائية في كلّ الحروب التي خاضتها. في العصور القديمة، أقدمت القبائل البدوية دوماً على مهاجمة السلالات الصينية الأولية. خلال حروب الأفيون الشهيرة في القرن التاسع عشر، هاجمت القوى الإمبريالية الغربية الصين بقوة السلاح. غالباً ما يتطرق الحزب الشيوعي الصيني إلى «قرن الإهانة» الذي عاشه الصينيون، عندما هاجمت الإمبراطوريات الأوروبّية الصين بوحشية وقتلت أو أصابت عشرات آلاف الرجال والنساء والأولاد الصينيين. احتفظ الحزب بذكريات تلك المحنة في معرض دائم داخل متحف الصين الوطني، على بُعد خطوات قليلة من ساحة تيانانمن.



رغم كلّ المخاوف الأمنية المشروعة والقديمة التي تحملها بكين، يبقى نطاق التوسّع الصيني واضحاً. غالباً ما ينكر القادة الغربيون هذا الواقع أو يتجاهلونه بطلبٍ من القادة الصينيين. عندما اجتمع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون أخيراً مع ماو تسي تونغ، قاله له مُطمْئِناً: «نعرف أن الصين لا تُهدد الأراضي الأميركية». لكن صحّح له ماو كلامه سريعاً وقال: «نحن لا نُهدد اليابان أو كوريا الجنوبية أيضاً». فأضاف نيكسون: «ولا أي بلد آخر». لكن عادت بكين وأقدمت على غزو فيتنام خلال عقدٍ من الزمن.

في تلك الفترة، كان نيكسون يراهن على تقسيم الكتلة السوفياتية وإحداث شرخ بين الاتحاد السوفياتي وجمهورية الصين الشعبية. لاحظ نيكسون وهنري كيسنجر الانقسام بين الصينيين والسوفيات وقيّما مسار الصين بدقة: يتجه هذا الشعب المتوسّع إلى السيطرة على الاقتصاد العالمي عند حصوله على الوسائل اللازمة. لو تمكّنت واشنطن من استمالة شريكة الاتحاد السوفياتي الصغرى، كان الغرب ليعيق قدرة موسكو على فرض قوتها في أوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا.

غالباً ما يلجأ الأميركيون إلى مصدر أساسي لفهم الاختلافات القائمة: كتاب The Art of War (فن الحرب) للجنرال والخبير العسكري الصيني سون تزو. لطالما تأثّر عدد كبير من المفكرين الغربيين بواحد من أشهر أقواله: «كلّ الحروب ترتكز على الخداع». لكن بدل استكشاف التاريخ الذي يُوجّه أفكار سون تزو، يختار جزء كبير من صانعي السياسة أسهل مسار: الاستشراق الصيني. تتعدد الأفكار المستهلكة في هذا المجال، أبرزها عبارة «الصين تفكّر على المدى الطويل، والولايات المتحدة تفكر على المدى القصير».

لكن غالباً ما تبقى هذه التصريحات معزولة عن أحداث التاريخ، فتُطرَح على شكل أفكار بديهية ومؤكدة. نتيجةً لذلك، سنبقى أمام فرضيات مبتذلة وغير نافعة كونها لا تفسّر السبب الذي يجعل توصيات الخبراء الاستراتيجيين الصينيين تقوم على المكر والخداع، أو العوامل التي تجعل تجارب الصين التاريخية الفريدة من نوعها تُوجّه التكتيكات العسكرية.

في ظل غياب حسّ الفضول، يسهل أن ينشأ انطباع معيّن عن الصين باعتبارها «الطرف الآخر» أو المنافِسة الغامضة والمبهمة. عند تفسير ماضي بكين بطريقة سطحية، لا مفر من التوصل إلى استنتاجات جزئية عن سلوكها الراهن. في معظم الأوقات، يفضّل صانعو السياسة تجنّب الرجوع إلى التاريخ الصيني بالكامل.

في أواخر العام 2020، أنهى مكتب التخطيط السياسي الأميركي تقريراً مؤلفاً من 72 صفحة. يعكس هذا التقرير محاولة جديرة بالثناء لتكرار الوضوح الاستراتيجي الذي دعا إليه الديبلوماسي الأميركي جورج كينان، لكنه يُخصّص صفحة واحدة فقط للتطرّق إلى الثقافة الاستراتيجية للسلالات الصينية.

من الواضح أن حصر الثقافة الاستراتيجية بالاختلافات العرقية المبهمة لا يفيد أحداً باستثناء الرئيس الصيني شي جينبينغ وأتباع حزبه. يسعى الحزب الشيوعي الصيني إلى دمج نفسه مع الشعب الصيني ويعمد إلى استعمال هذا الشعب دوماً كدرع بشري في خطاباته. وفق فكرة شائعة ومستهلكة وسط الديبلوماسيين الصينيين، يُعتبر انتقاد الحزب الشيوعي الصيني مرادفاً «لجرح مشاعر 1.4 مليار نسمة». تستعمل بكين هذا المنطق الخادع لاعتبار السياسات المناهضة للحزب الشيوعي الصيني دليلاً على العنصرية. قبل سنوات على وقوع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في هذا الفخ بسبب خطابه المتهور عن «الفيروس الصيني» و»كونغ فلو» (إنفلونزا الكونغ فو)، كان جيل شاب من داعمي استعمال القوة في الصين قد تعهّد بتجنب هذا المأزق.

كتب الصحافي جوش روغين من صحيفة «واشنطن بوست» عن هذه النزعة القوية في كتابه الذي حقق أعلى المبيعات في العام 2012، Chaos Under Heaven (فوضى تحت السماء). وثّق هذا الكتاب القرار الجماعي الذي اتخذته واشنطن لكبح محاولات بكين الرامية إلى «تقسيم الأميركيين بحسب الانتماء الحزبي أو العرقي لتحويل أنظارهم عن أفعال الصين». يوضح روغين: «كنتُ أشارك دوماً في تلك الاجتماعات وما زلتُ مقتنعاً بضرورة أن يُميّز القادة الأميركيون بين الحزب الحاكم والشعب الصيني، لا احتراماً لمن يعيشون يومياً تحت رحمة الحزب الشيوعي الصيني فحسب، بل حفاظاً على سلامة الأميركيين الصينيين الذين يواجهون جرائم عنصرية متزايدة بعد أزمة «كورونا» أيضاً». لكن يجب أن تتجنب الولايات المتحدة في هذه الظروف فخاً آخر: يُفترض ألا تساوي بين الحزب والصين.

لم يبدأ تاريخ الصين في العام 1949، حين أنشأ ماو تسي تونغ والحزب الشيوعي الصيني جمهورية الصين الشعبية، ولم يبدأ أيضاً مع «قرن الإهانة» الذي عاشته الصين عندما فتحتها القوى الإمبريالية الأوروبّية بالقوة في منتصف القرن التاسع عشر. من المعروف أن الحضارة الصينية تسبق الولايات المتحدة والغرب بآلاف السنين. هذا السياق يعطي سلوك الحزب المعاصر معنىً مختلفاً، إذ تعكس الأفكار المرتبطة بالعظمة والسقوط والنهوض في تعليقات شي جينبينغ في العام 2013، جوهر التاريخ الصيني.

ترتكز قصة الصين أو «ثقافتها الاستراتيجية» على أربعة فصول، ولا يمكن فهم استراتيجية الحزب الشيوعي الصيني اليوم من دونها. تفسّر الثقافة الاستراتيجية كيف ترسم تجارب البلد الاستثنائية معالم الهويات الوطنية المختلفة التي تتحول إلى سياسة خارجية بحد ذاتها. تقوّي ثلاثة عناصر (القصة، الهوية، السياسة) بعضها البعض وترسم معالم كل عنصر منها. يحمل الحزب الشيوعي الصيني قصته وهويته وسياساته الخاصة طبعاً، لكن يبقى هذا الحزب مجرّد رافد بسيط في نهرٍ طويل. لا يستطيع القادة الأميركيون أن يتفوقوا على الحزب الشيوعي الصيني من دون أن يفهموا قصة الصين وهويتها.

منذ البداية، ظهرت الصين على شكل طاغوت حضاري يسعى إلى فرض هيمنته السياسية. حاولت الصين في معظم الأوقات أن تخفي هذا الطموح عبر اللجوء إلى ديبلوماسية تصالحية، لكن استنتج جيرانها من تجاربهم الخاصة معنى النضال للعيش والصمود في ظل «التنين». يضايق الديبلوماسيون التابعون للحزب الشيوعي الصيني جيران الصين عبر المطالبة بفرض سيطرتهم على كامل أراضيهم أو أجزاء منها منذ زمنٍ بعيد: إنه اعتراف غير مباشر بأن الحزب هو آخر مقاتل ضمن سلسلة طويلة من الإمبرياليين. كان هذا النضال محصوراً في دول شرق آسيا في الماضي، لكنه بات يطرح اليوم تحدياً على كلّ بلدان العالم.

بدأت بكين تتقرّب من العالم في محاولة منها لحُكمه بدل الاندماج معه. لا يستطيع العالم الغربي أن يغفل عن هذا الواقع لأي سبب، علماً أن السياسيين الأميركيين كانوا قد أصدروا أحكاماً خاطئة على بكين طوال عقود. ستبقى السياسة الأميركية تجاه الصين مترددة إلى أن تعترف بنزعة «المملكة الوسطى» إلى تأييد الإمبريالية.

هذا الواقع يشكّك بالهدف الخفي الذي يسعى إليه صانعو السياسة الأميركية: السعي إلى قيام نسخة ديموقراطية من الصين. رغم كلّ الخلافات بين داعمي استعمال القوة والسلميين في الولايات المتحدة، يظن هذان الفريقان أن «مشكلة الصين» تطرح تحدياً إيديولوجياً. افترض داعمو التواصل سابقاً أن الالتزامات الاقتصادية ستُمهّد لإصلاح سياسي حتمي، وهي قناعة راسخة في مبدأ العولمة الليبرالية. في المقابل، ينسب داعمو المواجهة المشكلة القائمة إلى نظام الحزب الشيوعي الصيني، ما يعني أن الوضع يتطلب حلاً إيديولوجياً.

يبدو أن الجانب الثابت الوحيد في السياسة الأميركية تجاه الصين، منذ اجتماع نيكسون مع ماو تسي تونغ في العام 1972، يتعلّق بالالتزام الدائم بتغيير النظام عن طريق التجارة أو المنافسة. لقد تبيّن أن القناعة الراسخة في قوة الديموقراطية العالمية تحمل طابعاً ساماً. وفق هذا المنطق، يمكن تحويل أي عدو إلى صديق عبر جعله يُشبهنا بكل بساطة.

قد يكون هذا النوع من خداع الذات حتمياً. تعجّ الهوية الوطنية الأميركية بقناعات عن الحرّية، والمساواة، والفرص. لكن يطرح إرث الحزب الشيوعي الصيني سؤالاً شائكاً على الولايات المتحدة: حتى لو أصبحت الصين المعاصرة دولة ديموقراطية، هل ستتخلى عن مكانتها كمملكة وسطى؟ وإذا انهار الحزب الشيوعي الصيني وسارت الصين على خطى تايوان في مجال التحرّر الاقتصادي والسياسي، هل سيخسر النظام تعطّشه إلى فرض هيمنته فجأةً؟ هذا ممكن، لكنّ تبسيط السلوك الصيني عبر حصره بتصرفات القادة الحاليين في الحزب الشيوعي يتجاهل تاريخ الصين على مرّ آلاف السنين ويغفل عن الثقافة الاستراتيجية التي تُوجّه تلك القرارات.