جورج شبلي

المغامرات والوطن

7 حزيران 2024

02 : 00

لقد نبّه علم نفس السّلوك إلى أنّ المغامرات لا تعود على صاحبها بفائدة، فكيف على الجماعات والأوطان، لذا، دعا إلى سبيل الحلول بالإتّزان، والحكمة، وهما أكثر نفعاً من الهَوس العقيم، والتعنّت، والتّناحر، خاصةً على صعيد النتائج والمردود.

إنّ المغامرة التي نشير إليها، بين مغامرات عندنا وما أكثرها، هي إعلان الحرب، بشكل استباح رأي غالبيّة شرائح النّسيج الوطني، بوضع اليد على القرار، وكأنّ شرعيّة الجماعة الوطنيّة استُبدلت بشرعة مهيمنة، أو استُبِدّ بها من غير وجه حقّ، معرِّضة البلاد إلى تداعيات وخيمة، ملوَّنة بالدم، تُفقِدها الأمان، والخبز، معاً. وقد فاجأنا الذين ساروا في ركاب المغامرين، بأنّهم هيَّصوا بمعلّقات أين منها المعلّقات السَّبع الجاهليّة، وقد ركّزت، في مقدّمها، على النّصر المُبين الأسطوريّ، وهم لم ينسوا توجيه التهمة بالعمالة، وهي جاهزة دائماً، للذين أدانوا التفرّد بقرار الحرب، وأَخْذ البلد إلى مصائر لا تُحمد عقباها، من هنا، فإنّ اجتهادهم بنصرة المغامرة، بخفّة، هو اجتهاد فاسد.

إنّ المغامرين من حاملي الألقاب، ومن على الشّاشات، وصلوا بنبراتهم الخطابية الطنّانة حدّ نضوب الدّم من وجوههم، فكأنّهم يواجهون فرساناً في ساح القتال الشّاشَاتي، ما يقود إلى مشهد انفعاليّ لا تنضح منه دعوة إلى الإطمئنان، بقدر ما يؤكّد على أنّ الوطن معرَّض لمخاطر هو بغنًى عنها. وإذا عدنا إلى ما يدافع عنه المغامرون، أعني القرار بالمواجهة العسكرية في الجنوب، فواضح تماماً أنّ المغامرين انقلبوا على ما تمّ التّفاهم عليه في الميثاق، وأفرغوا السّلطة من جدواها بشلّها المقصود، وعطّلوا بنود الدّستور، ووضعوا اليد على مفاصل الموقف اللبناني من الحرب الدّائرة في غزّة، وأحكموا قبضتهم على الدّاخل، فبدا الوطن شريداً، ومحشوراً بشدّة في عنق الأزمة، والخطر، وربّما زوال بعضٍ من أرضه، من هنا، ليس صحيحاً أنّ المغامرين يدافعون عن لبنان بإعلانهم الحرب على العدوّ المَكّار.

لا شكّ، إطلاقاً، في أنّ العدوّ البطّال الذي تتلاصق خريطتانا، وليتهما لم تكونا كذلك، يرتكب المجازر، والإبادة، والقتل الجماعيّ، والتّشريد، والتّجويع، وانتهاك الحقوق التي أقرّتها شرعة الأمم، وهذا يستدعي، حكماً، موقفاً يدين، بشدّة، هذا السّلوك الإجراميّ الذي لا نقع على مثيل له إلّا في تاريخ الإبادات، والتّصفيات، التي ارتكبها الهولاكووِيّون، والسّتالينيّون، والنّازيّون، في عهود الرقّ، والفتك، وشلّال الدّم، بحيث أصبح النّاس، وقتها، وَقفَ الشّيطان. والإدانة، في مقابل أنهار الضّحايا، واجبة وملزِمة، وتطالب القادِرين الدَّوليّين بفرض وقف فوريّ لإطلاق النّار، صَوناً لمَنْ تبقّى من أهل غزّة الجريحة، هؤلاء الذين كابدوا الإنسحاق، والتّقتيل، والتّهجير، ولمّا يزالوا يتجوّلون في كفنٍ صَدِئ ينزف موتاً.

نعم، الإدانة واجبة إنسانيّاً، وقوميّاً، وأخلاقيّاً، وتتضمّن دعوة شديدة اللّهجة إلى دول القرار لكي تفرض على العدوّ التزاماً صارماً بالتوقّف عن حرب الإبادة تلك. أمّا الانخراط في حرب مرعِبة غير محسوبة، فهي استدراج لهذا العدوّ إلى تدمير لبنان بآلته الحربيّة الفتّاكة، حجراً وبشراً، لتزداد مصائبه ونوائبه، وهذه ليست، أبداً، مسألة تفصيليّة تصبّ في سياق تداعيات المواجهة. إنّ ما يحصل في جنوب لبنان، خصوصاً في دَكّه بقنابل كيميائيّة تجعل من أرضه مكاناً غير قابل للحياة، وما قد يحصل لكلّ لبنان، إذا تمدّدت الحرب، لا يستلزم كبير عناء للتدليل على أن الصّورة قاتمة، وأنّ البلاد موضوعة تحت المقصلة، وأنّ النّاس المقموعين سوف يتحسّسون رقابهم ليتأكّدوا من استمرار وجودها فوق أكتافهم...

إنّ مشروع الدّخول في الحرب، ليس، على الإطلاق، دفاعاً عن لبنان، وأهله، وسيادته، وكيانه. إنّما هو خطأ شنيع، وسلوك مرتبط بأوامر من خارج معروف، وهو زجٌّ للبلاد في صراع ضَروس ستكون نتائجه أكثر سوءاً، ودماراً، وضحايا، ممّا كانت عليه في المواجهة السّابقة التي مهما ابتُدِعت الأساليب لأَسطرة نتائجها، فلا يُطلَب من الواحد، للوقوف على حقيقتها، إلّا إتقان القراءة، فقط.

كان من واجب المغامِرين، قبل المباشرة بتنفيذ قرار ليس ملكهم، وهو قرار الحرب والسِّلم، أن يُمعنوا النّظر في نتائج مغامرتهم بمقياس العقل، والرّزانة، وبتوقّع التّداعيات المُكلِفة، وأيضاً، بطرح هذا القرار، وهو قضيّة مركزيّة في الدولة، على طاولة الحكومة، وأمام المسؤولين الأمنيّين وسواهم... وكان عليهم، أيضاً، أن يسألوا لماذا إلزام لبنان، وحده، بأن ينخرط في المواجهة، دون دُوَل الطّوق، ودُوَل الممانعة، وأين وحدة السّاحات التي نُظِمَت فيها المطوّلات وبقيت حِبراً على ورق باهت... لكنّ الهيمنة التي يمارسها المغامِرون الذين لا يعترفون بالوطن مرجعيّة وحيدة، وينصاعون، بالمقابل، لأوامر من خارج لا تمتّ لمصلحة لبنان، قد أدَّت بالقيِّمين على شؤون البلاد والعباد إلى الرِّضى القسريّ المتحالِف مع التّخاذل، أو المصلحة، وسوف تؤدّي إلى القضاء على الوطن، وهذه مسألة، إذا استمرّت المغامرة، مسألة وقت لا أكثر... وللأسف، رحمَ الله الوطنيّة.