قد يكون ملف التغير المناخي الرابح الأكبر من تصعيد الحرب التجارية في قطاع التكنولوجيا الخضراء بين الولايات المتحدة والصين. في أحدث مؤشر إلى معنى القومية التكنولوجية خلال هذه السنة الانتخابية، فرض الرئيس الأميركي جو بايدن في أيّار حزمة من الرسوم الجمركية الجديدة على السيارات الكهربائية، والبطاريات، والخلايا الشمسية المصنوعة في الصين، بالإضافة إلى سلع صينية أخرى، واحتفظ في الوقت نفسه بكلّ الرسوم التي فرضها سلفه دونالد ترامب على الصين. تهدف هذه الخطوات إلى حماية العملية الانتقالية نحو الطاقة الخضراء وتطويرها.
بالنسبة إلى بعض المنتجات، ولا سيما السيارات الكهربائية، تبدو مناورة بايدن استباقية، فهو يسعى بهذه الطريقة إلى تجنب صدمة صينية متوقعة تتمثّل بظهور موجة جديدة من السلع التي تكون صينية الصنع وتمنع إعادة تنشيط الصناعة الأميركية. لا يزال عدد السيارات الكهربائية الصينية التي تُباع في الولايات المتحدة صغيراً حتى الآن، لكن يتوقع المعنيون وصول موجة من السلع الجديدة في قطاعٍ أثبتت فيه الصين تفوّقها على الولايات المتحدة.
من المتوقع أيضاً أن يفرض الاتحاد الأوروبي، حيث تشكّل السيارات الكهربائية الصينية أكثر من 20 في المئة من سلع السوق، بعض الرسوم الجمركية عليها. في غضون ذلك، بدأت مجموعة من الدول الصناعية النامية (الهند، البرازيل، المكسيك، أندونيسيا) تسجّل شكاوى في شأن السلع الصينية الرخيصة.
تهدف الرسوم الجمركية فعلياً إلى كسب الوقت لزيادة المنافسة أو التفاوض على تسويات معيّنة. لكنّ الضغوط التي يفرضها التغير المناخي يحدّ من المهلة الزمنية المتاحة. يبرز تناقض معيّن بين تحقيق الأهداف الاقتصادية القومية والمشكلات المُلحّة التي يطرحها التغير المناخي. يذكر تقرير أصدرته «مجموعة روديوم» في آذار 2023 أن الجهود الانتقالية الأميركية في قطاع الطاقة راهناً لن تُحقق الهدف المنشود (إذا افترضنا أنها ستستمر إلى ما بعد تشرين الثاني المقبل).
لكن تكمن المفارقة في تسارع العملية الانتقالية نحو الطاقة الخضراء بفضل الخلايا الشمسية والسيارات الكهربائية والبطاريات الصينية الرخيصة، حتى لو كانت هذه السلع تطرح تهديداً على الصناعة الأميركية. أدى فائض الإمدادات الصينية الذي يُهدد قطاع الطاقة الشمسية الأميركي إلى تخفيض الأسعار بأكثر من 80 في المئة. من الناحية السلبية، قد تحمي الرسوم الجمركية بعض الوظائف في الولايات المتحدة، لكن يؤدي فك الارتباط عن التكنولوجيا الصينية الخضراء إلى تحقيق هدف معاكس لما تريده واشنطن. بعبارة أخرى، قد يُعرّض بايدن العملية الانتقالية التي أطلقها للخطر، فيؤخّر تحقيق الأهداف ويزيد التكاليف في أفضل الأحوال.
لتحقيق الهدف الوارد في اتفاق باريس للعام 2015 والمرتبط بإبقاء الاحتباس الحراري تحت عتبة الدرجتَين المئويتَين مقارنةً بالمستويات المسجّلة في حقبة ما قبل الصناعة، التزم بايدن بأهداف مناخية طموحة يُحددها «قانون خفض التضخم»، أبرزها تخفيض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة تتراوح بين 50 و52 في المئة بحلول العام 2030، وبلوغ انبعاثات صفرية بحلول العام 2050، وزوال الانبعاثات من نصف السيارات الجديدة.
من المستبعد أن تتحقق هذه الأهداف ضمن المهلة المحددة تزامناً مع فك الارتباط عن التكنولوجيا الصينية الخضراء. لن تكون مساعي مواكبة التطورات سهلة بأي شكل، ولا سيما في زمن انحسار النمو وارتفاع أسعار الفائدة وفي ظل التحديات المرافقة لتفكيك سلاسل الإمدادات العالمية المعقدة.
تتعلق مشكلة أكثر خطورة بتأثير الانقسامات السياسية على قطاع السيارات الكهربائية. يشمل الحزب الجمهوري عدداً من المسؤولين الذين ينكرون التغير المناخي أصلاً، وهو يعارض العملية الانتقالية نحو الطاقة الخضراء ومفهوم السيارات الكهربائية على وجه التحديد. يكشف استطلاع جديد أجراه مركز «بيو» للأبحاث أن 12 في المئة فقط من المشاركين الجمهوريين أو أصحاب الميول الجمهورية يضعون التغير المناخي على رأس أولوياتهم. في غضون ذلك، لا يعتبر ترامب، المرشّح الجمهوري للرئاسة، السيارات الكهربائية مسألة وجودية. أصبحت هذه السيارات جزءاً من حروب ثقافية. في منتصف شهر أيار، وقّع حاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتيس، على تشريع يمنع استعمال أي مراجع تشير إلى التغير المناخي في قانون الولاية ويمنع استعمال توربينات الرياح البحرية في المياه المحلية. كذلك، تحاول بعض الولايات الجمهورية تعطيل حملات الطاقة المتجددة، بما في ذلك المناطق الرائدة في إنتاج طاقة الرياح والطاقة الشمسية.
تزامناً مع تلاحق التحذيرات من المخاطر الواضحة التي تطرحها بكين، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال خطاب بارز عن السياسة الأميركية تجاه الصين في العام 2023، إن «الصين جزء من الاقتصاد العالمي، وهي أساسية لتحسين قدرتنا على معالجة مختلف التحديات، بدءاً من المناخ وصولاً إلى أزمة كورونا». لكن رغم خطابات الإدارة الأميركية حول المنافسة والتعاون، تشمل سياسات بايدن الرامية إلى فصل تقنيات الطاقة الخضراء عن الصين أفكاراً معاكسة. قد يكون هذا المسار صائباً وربما تستحق الصين هذا النوع من المواقف الرافضة، لكن تكشف البيانات أن هذه القومية الاقتصادية الناشئة ستزيد تعقيدات العملية الانتقالية الأميركية نحو الطاقة الخضراء بدل تسريعها. بدأت الظروف التي تُمهّد لأزمة التكنولوجيا الخضراء الراهنة منذ فترة طويلة. عندما كانت الولايات المتحدة تناقش حقيقة التغير المناخي وتخوض حروباً لامتناهية، قررت الصين أن تجعل الصناعة المتقدمة والتكنولوجيا الخضراء محور موجة النمو المقبلة، حتى أنها أطلقت منذ عشر سنوات خطة «صُنِع في الصين» الممتدة إلى العام 2025 لبلوغ مستوى من الإنتاج المستقل في قطاعات تعتبرها بكين استراتيجية، وأعطت الأولوية للتكنولوجيا الخضراء.
تشبه العلاقة الاقتصادية المتوترة مع الصين اليوم المخاوف التي انتشرت خلال الثمانينات من احتمال أن تتفوّق قوة اقتصادية صاعدة. في تلك الفترة، كانت الحرب التجارية قائمة مع النظام الاقتصادي الياباني الذي شمل فوائض كثيرة وطرح مخاطر على صناعة الإلكترونيات في الولايات المتحدة. كان الرد على ذلك الوضع متعدد الأوجه، فقد طُرِحت سياسة صناعية، وأنشأت الحكومة اتحاد الصناعة البحثي «سيماتيك» لإعادة إحياء قطاع أشباه الموصلات الأميركي، وحققت نتائج مختلطة. في الوقت نفسه، فُرِضت بعض الرسوم الجمركية والحصص، والأهم من ذلك هو إبرام «اتفاق بلازا» في العام 1985 لإعادة ضبط الين الياباني مع الدولار الأميركي وعملات أخرى.
ساهم «اتفاق بلازا» في إخماد العدائية الجنونية تجاه اليابان، لكن تغيّر الوضع بشكلٍ جذري على الأرجح بفضل الاستثمارات اليابانية في الولايات المتحدة، فقد بلغت مستويات قياسية في العام 2021 (721 مليار دولار)، وتوظّف الشركات اليابانية حوالى مليون عامل أميركي أيضاً. كذلك، نشرت شركات تصنيع السيارات الأميركية تكنولوجيا وتقنيات إدارية يابانية وزادت قدرتها التنافسية.
يمكن استخلاص دروس قيّمة من تجربة اليابان وتطبيقها على المعضلة الصينية اليوم. اليابان حليفة للولايات المتحدة لكنها كانت منافسة اقتصادية لها، على غرار الاتحاد الأوروبي. يفكّر بعض المراقبين باقتراح نسخة مستحدثة من «اتفاق بلازا». لكن لا تتعلق المشكلة الكبرى باختلال العملات، بل يجب أن يشمل أي اتفاق جديد مفاوضات حول الإعانات والشفافية في منظمة التجارة العالمية. لكن لم تتّضح بعد طريقة تحديد تلك الإعانات أو قياسها، ما يجعل أي مقاربة مماثلة عملية طويلة وشائكة نظراً إلى نقاط الشبه بين سياسة بايدن الصناعية والسياسة الصينية.
لكن ماذا لو تغيّر المسار الراهن وبدأت الصين تنقل تقنياتها إلى الولايات المتحدة؟ قد تُصنّع الصين السيارات الكهربائية والبطاريات، وتفتح مصانع للطاقة الشمسية في الولايات المتحدة، وتُوظّف العمال في الوقت نفسه. لكن في ظل المناخ السياسي المشحون اليوم، قد تثور حفيظة الكونغرس إزاء ما يحصل. سبق وعبّر الكونغرس عن استيائه أصلاً.
عندما أعلنت شركة «فورد» في شباط 2023، أنها تتجه إلى ترخيص تقنية البطاريات المتقدمة من «كاتل»، أكبر شركة بطاريات في الصين، لبناء مصنع في ميشيغان، طلب المشرّعون من البيت الأبيض التحقيق في هذه العملية. ثم عمدت «فورد» إلى تقليص حجم مصنعها. لكن تتفوّق الصين عملياً على الولايات المتحدة في قطاع البطاريات، فهي تنتج بطاريات أخف وسريعة الشحن ويكون الليثيوم فيها أقل كلفة. سعت «فورد» إلى نقل تقنية فوسفات الحديد والليثيوم من «كاتل» إلى الولايات المتحدة لتعلّم هذه التكنولوجيا التي تعجز الشركات الأميركية عن إنتاجها بكميات كبيرة حتى الآن ولزيادة قدرتها التنافسية.
عبّر عنوان رئيسي في مجلة «إيكونوميست»، في تموز 2023، عن مخاوف شائعة على نطاق واسع: «تبدو أي سلسلة إمدادات تستثني الصين في قطاع البطاريات مستحيلة». لا عجب إذاً في أن تزدهر الواردات المصنوعة في دول صديقة مثل الهند وجنوب شرق آسيا بفضل الرسوم التكنولوجية التي فرضها ترامب وبايدن، لكن يُعاد تجميع معظم تلك السلع عبر استعمال قطع صينية.
لا تزال الولايات المتحدة رائدة عالمياً في مجال الابتكارات، ويمكنها أن تطرح سلاسل إمدادات بديلة عبر تخصيص الوقت الكافي والأموال اللازمة. تكثر المعادن الوافرة خارج الصين، مع أن تراخيص التعدين وعمليات معالجة المعادن قد تتطلب سنوات طويلة ولا يسمح إيقاع التغير المناخي بالانتظار طوال هذه الفترة. تترافق السياسة الحمائية مع تكاليف وعواقب معيّنة. من دون الصين، كانت كلفة العملية الانتقالية الأميركية نحو الطاقة الخضراء لترتفع بنسبة 20 في المئة. ستتحقق هذه العملية يوماً، لكنها لن تلتزم على الأرجح بالمهلة الزمنية المتفق عليها. قد تبقى تداعيات السيارات الكهربائية والتقنيات الخضراء الصينية ضئيلة في الولايات المتحدة، لكنها ستخترق أسواق أوروبا والجنوب العالمي حتماً، ما يعني إضعاف الفرص التي تسمح للأميركيين بالمنافسة في سوق التكنولوجيا الخضراء.
في نهاية المطاف، تشدّد تجربة التكنولوجيا الخضراء على توسّع النزعة إلى تجزئة التجارة والنظام المالي لأسباب تزداد ارتباطاً بضرورات الأمن القومي. لكنها تؤكد في المقام الأول على الفكرة القائلة إن المنافسة بين القوى العظمى وجهود معالجة المشكلات العالمية الوجودية هي جزء من الأسباب الشائكة التي تبرّر المصالحة بين طرفَي الصراع.