فورة مسرحيّة يشهدها لبنان؛ فبعد هدوء وفراغ خيّما على الكراسي الحمراء طويلاً، عادت المسرحيّات لتغزو المسارح التي صمدت في وجه الأزمات. واللافت، أنّ الإقبال على مختلف أنواع العروض كثيف. في الحقيقة، ليس بجديد أن يكون المسرح اللبناني حافلاً، وما يثير الاهتمام حقاً، هو انتقال بعض العروض من لبنان إلى خارجه، لا سيّما إلى الإمارات العربيّة المتّحدة وخصوصاً دبي.
«غمّض عين فتّح عين» لسينتيا كرم وفؤاد يمّين، Mono Pause لبيتي توتل، «ميري كريم» لوليد عرقجي ولينا أبيض، وغيرها الكثير... كلّها مسرحيّات تنتقل إلى دبي لعروض محدودة بعد نجاحها في بيروت. أهي تلبية لتعطّش دبي إلى ثقافة بيروت، أم هي تلبية لحاجة مادّيّة ترافق الفنان اللبناني؟... ربّما الاثنان معاً.
لكنّ الأكيد، أنّ هذا النزوح المسرحيّ يلقى إقبالاً واسعاً والصالات «complet» قبل أشهر من العرض نفسه. شركات الإنتاج رصدت فرصة من ذهب، قد تكون سترة إنقاذ وضربة قاضية في الوقت نفسه.
في السياق، ترى مديرة مسرح «مونو» جوزيان بولس أنّ «العدد المتزايد للفنّانين اللبنانيين الذين يؤدّون مسرحيّاتهم في دبي ما هو إلّا انعكاس لتطوّر المشهد المسرحيّ الإقليميّ». وتؤكّد بولس باعتبارها مهتمّة ومتابعة عن كثب للمشهد المسرحي أنّ «المشهد الثقافي المزدهر في دبي يوفر منصة حيويّة للفنّانين. وأن جمهور المدينة العالمي متنوّع، ما يتيح للفنانين اللبنانيين فرصة الوصول إلى مجموعة بشرية أوسع وأكثر تنوّعاً. ولا تزيد هذه الخبرة نقاطاً إلى رصيد نجوميّتهم فحسب، بل تعزّز أيضاً التبادل بين الثقافات التي تثري التجربة الفنية لكلّ من الفنان والجمهور».
كذلك، تشير بولس إلى أنّ «البنية التحتية والموارد الفنية في دبي متطوّرة للغاية. فهي توفّر المسارح الحديثة والدعم الفني مثل الإنتاج الذي يمكن أن يصقل العرض الأمر الذي يصعب تأمينه في بيروت بسبب قيود متعدّدة. كما تسمح هذه البراعة التقنية للفنانين بالتجربة والابتكار، ودفع حدود تعبيرهم الإبداعي. في المقابل، فإن الأداء في بيروت، يوفّر ارتباطاً عميقاً بالثقافة والمجتمع المحلّي، إذ يتمتّع الجمهور في عاصمتنا بمستوى فريد من الفهم والتقدير للفروقات الثقافية الدقيقة ضمن العروض. وغالباً ما يؤدي ذلك إلى ارتباط حميمي إذا صحّ التعبير، وإلى تجربة مشحونة عاطفياً للفنانين والمشاهدين على حدّ سواء».
ومن ناحية المردود، لا شكّ في أنّ دبي تسبق بيروت بأشواط، و»تمثّل خياراً جذّاباً نظراً لاستقرارها وازدهارها الاقتصادي»، على حدّ قول بولس. وكلّ هذا يمكن أن يكون عاملاً حاسماً للحفاظ على الحياة المهنية الفنية. وتضيف: «في حين أن الأداء في دبي يوفّر للفنانين فرصاً جديدة وجماهير أوسع، إلا أن الجوهر والعاطفة الموجودين في بيروت لا مثيل لهما. فتبقى القدرة على التنقّل بين البلدين الحلّ الأمثل الذي يسمح للفنانين بالنموّ والازدهار في مشهد فني ديناميكي ومترابط».
Mono Pause مثالاً
بيتي توتل من الفنانين الذين حظوا بالاستمتاع بتصفيق الجمهور اللبناني-العربي-الإماراتي. وبنظرها، قد يعود هذا النزوح المسرحيّ إلى «تزايد أعداد المهاجرين إلى الإمارات. فبعد السنوات الأربع التي مضت، خصوصاً بعد انفجار الرابع من آب، اضطرّ عدد هائل من اللبنانيين إلى إعادة بناء أنفسهم من الصفر خارج بلدهم الأمّ، ودبي هي أحد الأماكن التي اتّجه إليها الكثير من اللبنانيين ليؤسّسوا حياتهم من جديد».
وتتابع: «من خلال خبرتي مع شركات الإنتاج، لاسيّما الشركة التي تعاملت معها لمسرحيّتي الأخيرة Mono Pause، (وهي شركة إنتاج جديدة فعليّاً، تأسّست بعد الرابع من آب 2020 وبعد الكوارث التي مررنا بها)، أعتقد أنّ هذه الشركات لمست حاجة الجالية اللبنانيّة إلى أن تقدّم لها أعمالٌ لبنانيّة، فهناك حياة ثقافيّة في دبي على عكس ما يعتقد البعض، لكنّ الأعمال اللبنانيّة هي التي كانت تغيب عنها نوعاً ما. بالتالي أعتبر أنّ هذه حاجة جديدة تمّ رصدها، وبعد تلبيتها، اعتاد اللبنانيّون في دبي أن يتوجّه كلّ عمل يلاقي نجاحاً في بيروت، مباشرةً إلى دبي. كأنّ دبي البيت الثاني الذي يتّجه إليه العمل الفنّي أكان مسرحيّاً أم موسيقيّاً أم سينمائيّاً أم غيره».
وعن تجربتها تقول: «كنت من هذه المجموعة التي خاضت هذه التجربة، وتمّ الاتّصال بي، وقيل: «سمعنا إنّو المسرحيّة حلوة كتير»، فتقرّر أن يستورد العرض نظراً للطلب الكبير عليه من قبل الجالية اللبنانيّة المقيمة في دبي».
على الأغلب، من يهرع للتصفيق لعمل مسرحيّ لبنانيّ، هو لبنانيّ أيضاً. ومع ذلك، تتحدّث توتل عن فرق صغير بين جمهور دبي وجمهور بيروت، وتقول: «أعتبر نفسي محظوظة لأنّه تسنّى لي العرض لليلتين متتاليتين في مسرح «زعبيل» مع جمهور من ألف وثلاثمئة شخص. والجمهور في دبي يحجز مقاعده قبل وقت طويل، على عكس بيروت، حيث نعيش كلّ يوم بيومه وكلّ ساعة بساعتها. ربّما لأنّ الجمهور اللبناني يخاف ممّا ينتظره في الغد، فقد يشلّ البلد بكامله بلحظة لألف سبب وسبب». وتضيف: «شعرت أنّ جمهور دبي متعطّش فعلاً للضحكة والدمعة على حدّ سواء، وشعرت بكتلة من الحبّ غمرتني. وانتظرني كثيرون بعد العرض فقط ليعبّروا عن اشتياقهم لهذا النوع من الأعمال. أعتقد أنّهم يروون عطشهم للبنان من خلال الأعمال اللبنانيّة. ومن كثرة حماستهم وتوقّعاتهم العالية، نشعر أنّه من الصعب جدّاً تخييب أملهم. لذلك، الطاقة التي بذلتها في دبي عشرات الأضعاف من تلك التي بذلتها في خلال سائر العروض نتيجة المسؤوليّة التي شعرت بها». وتشير توتل إلى أنّ «ّالجمهور ليس لبنانيّاً فحسب، بل أيضاً هناك جمهور سوري وأردني وفلسطيني ومن كلّ البلاد العربيّة الأخرى، وحتّى في بعض الأحيان أجانب يتكلّمون العربيّة وتدفعهم الحشريّة لرؤية المسرح اللبناني».
أمّا من الناحية اللوجستيّة، فمسارح بيروت مرآة عن بيروت، ومسارح دبي مرآة عن دبي. وفي السياق تقول توتل: «في الحقيقة، الفارق الأكبر بين بيروت ودبي يكمن في التجهيز والأمور اللوجستيّة. فالمسارح في دبي ضخمة ومجهّزة بأحدث التقنيّات، فنشعر كفنانين نوعاً ما بالراحة لأننا لا نواجه المشاكل التي نواجهها في بيروت، من أبسط الأمور مثل المولّد وشحّ المازوت وانقطاع الكهرباء ومحدوديّة ساعات العمل بسبب هذه العوائق والتكاليف الناتجة عنها». وتتابع: «في دبي نشعر بالراحة وكلّ التسهيلات متوافرة لتقديم العمل بأفضل طريقة. مع ذلك، لا يمكننا أن نلوم مسارح بيروت، لأننا نعيش في بلد لا الدولة تدعم فيه المسارح، التي لم تتعاف تماماً من سلسلة الأزمات التي ضربتها، عدا الأزمات الخاصّة بكلّ مسرح مثل الحريق الذي هبّ في «مسرح دوّار الشمس». وكلّ هذه الأمور دفعنا ثمنها كفنانين».
إلى هذا، يسترجع لبنان شيئاً من تميّزه. صدّر الطب والتعليم، والفنّ. ومع كلّ مصائبه، تخرج من فنّانيه أعمالٌ تتمّناها أعظم الدول وأكثرها تطوّراً لمسارحها.
الخوف الوحيد، من أن تتحوّل بيروت لمجرّد محطّة ثانويّة لمسرحيّيها. وإذا حصل ذلك، فلن يبقى لنا إلّا أن نتغنّى بما كانت عليه مسارحنا قبل أن تنطلق إلى العالميّة...