مايكل سينغ

الصراع مع القوى الصغيرة يحوّل مسار السياسة الخارجية الأميركية

7 أيلول 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 02

خلال العقد الماضي، دعا صانعو السياسة الأميركية إلى إعادة التركيز على المنافسة بين القوى العظمى. تتمثل التهديدات الأولية التي تواجهها الولايات المتحدة برأيهم بالدول القوية التي تملك نفوذاً عالمياً وتحاول التصدي للمصالح الأميركية والنظام الدولي الذي يحميها. لكن صبّت السياسة الخارجية الأميركية تركيزها على مجالات أخرى. بقيت الولايات المتحدة غارقة في صراعات مع خصوم صغار، منها صراعات عسكرية كتلك الحاصلة في الساحل الإفريقي وأفغانستان والعراق وسوريا، كما أنها أصبحت عالقة في جهود قسرية لم تصل إلى مستوى الحروب المباشرة، كتلك التي تشمل إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا. أدى التورط في صراعات صغيرة إلى تقييد الرؤساء بسياسات خارجية متباينة جداً، فوصلوا جميعاً إلى السلطة وهم يحملون وعداً بتجنب التزامات مماثلة.

لا تتعارض الصراعات ضد الخصوم الصغار بالضرورة مع التركيز على المنافسة القائمة بين القوى العظمى. في النهاية، قد تُمهّد الخطوات التي تتخذها الولايات المتحدة بهدف احتواء القوى الصغرى أو ردعها (مثل نشر قوات عسكرية في كوريا الجنوبية أو قوات بحرية في الخليج العربي) لتوجيه تصرفات الخصوم الأقوياء على غرار الصين أو روسيا. مع ذلك، قد تُكبّل الصراعات مع الخصوم الصغار الموارد المتاحة وتستنزف انتباه الجهات المعنية، ومن الملاحظ أن هذه الصراعات تكاثرت خلال القرن الواحد والعشرين مع أن صانعي السياسة الأميركية اعترفوا بضرورة تحويل الانتباه عنها. باختصار، يجب أن تمارس واشنطن ضبط النفس وترفع سقف خططها إذا أرادت تجنب الغرق في مستنقع آخر.



بين الإكراه والطريق المسدود

غالباً ما يفضّل صانعو السياسة الأميركية أسلوب الإكراه على القوة الوحشية لأنه قابل للتطبيق الفعّال عبر قرار تنفيذي ونادراً ما يستدعي إشرافاً واسعاً من الكونغرس. كما أنه يستفيد من التفوق الأميركي من حيث النفوذ والثروة وترسانة الأدوات القسرية المتزايدة، على غرار العقوبات الاقتصادية والأسلحة الإلكترونية. لكن تثبت التجربة الأميركية أن الخصوم الصغار لا يسهل إرضاخهم. لاحظ المحللون أن الجهود الأميركية في معظم الحالات تفشل في فرض مسارات محددة على الدول الأقل قوة منها. حتى أن الجهود التي تنجح في تحقيق أهدافها في البداية لا تبدو مثمرة في المراحل اللاحقة حين يطول التورط الأميركي.

يتعلق أحد أسباب هذا السجل المُخيّب للآمال بميل صانعي السياسة الأميركية إلى إساءة فهم المظاهر غير المتماثلة في عالم النفوذ. تميل الولايات المتحدة المتفوقة بأشواط على غيرها من حيث قوتها الاقتصادية والعسكرية إلى فرض مطالب مبالغ فيها على خصومها الصغار، على اعتبار أن واشنطن يُفترض أن تتلقى مكافأة كبرى مقابل امتناعها عن شن حربٍ يسهل أن تفوز بها. وبما أن عواقب التدخل الأميركي العسكري أو الاقتصادي ستكون مقلقة أكثر من تداعيات الرضوخ لمطالب الولايات المتحدة، يظن صانعو السياسة أن أي خصم عقلاني سيوافق على تلك المطالب ولو على مضض.





لكن برأي الدول الصغيرة، يُعتبر أي صراع مع قوة عظمى وجودياً، حتى لو لم يكن مسلّحاً. بشكل عام، تخشى الدول الصغيرة أن تؤدي أي تنازلات كبرى للولايات المتحدة إلى توسيع المطالب المفروضة عليها وإضعاف موقفها أمام الخصوم الإقليميين والمحليين. في هذه الدول، يكون فقدان الاستقلالية الذي تعكسه مواقف الرضوخ مقلقاً أكثر من الأضرار المحتملة التي تُحدثها الولايات المتحدة إذا قررت تنفيذ تهديداتها الاقتصادية أو العسكرية.

في المقابل، لا تُهدد هذه الصراعات قدرة الولايات المتحدة على الصمود ولا تُركّز واشنطن أصلاً على أيٍّ من تلك الصراعات إلا بدرجة محدودة. تهدف الولايات المتحدة في الأساس إلى تحقيق النصر، لكن غالباً ما يحاول خصومها تجنب الخسارة بكل بساطة، ما يعني أن يصمدوا من دون تقديم تنازلات إلى أن يظن الأميركيون أن خيارهم الأقل كلفة يقضي بالمضي قدماً. تتمثل النتيجة النهائية في معظم الأوقات ببلوغ طريق مسدود.

حين يبدأ هذا المأزق، لا يبقى للولايات المتحدة خيارات إيجابية كثيرة للخروج منه. أحياناً، تتحول حملات الإكراه إلى حرب مباشرة. هذا ما حصل في العراق في العام 1991 وفي ليبيا في العام 2011. لكن أدت هذه الأحداث وتجارب أخرى، بما في ذلك حرب العراق في العام 2003 والالتزام الأميركي في أفغانستان طوال عقود، إلى توسّع مخاوف المسؤولين الأميركيين والرأي العام الأميركي من اللجوء إلى الصراع العسكري حين يفشل أسلوب الإكراه.

لكن حتى لو لم يكن تصعيد الوضع خياراً جاذباً، لا يُعتبر الانسحاب بكل بساطة مقبولاً. يخشى المسؤولون الأميركيون عموماً أن يشكّل قرار الانسحاب ضربة موجعة للمصداقية الأميركية في الخارج وأن يترافق مع تداعيات سياسية محلية. وعندما لا يقتنع صانعو السياسة بالتصعيد أو الانسحاب، لا مفر من أن يطول الطريق المسدود.

يبذل الخصوم الصغار قصارى جهدهم للحفاظ على هذا الجمود. قد يُبدون اهتماماً ظاهرياً كبيراً في التوصل إلى تسوية مع الولايات المتحدة، لكنهم يرفضون هذا الخيار فعلياً. وحتى لو رفضت أي دولة صغيرة الرضوخ للمطالب الأميركية، قد نتصور أنها ستكون مستعدة لوقف استفزازاتها مقابل إنهاء أسلوب الإكراه. لكن برأي عدد كبير من الخصوم الصغار، لا تكون معارضة الولايات المتحدة مجرّد مسألة سياسية بل إيديولوجية أيضاً: تُعتبر معاداة الأميركيين من المبادئ الأساسية للنظام الإيراني مثلما تدخل في صلب الإيديولوجيا الكورية الشمالية. تظن هذه الأنظمة على الأرجح أنها ستجازف بمصداقيتها أو حتى بصمودها إذا تخلّت عن عدائها تجاه الولايات المتحدة. وغالباً ما يفشل المسؤولون الأميركيون في فهم هذه العقلية.



نـــــهـــــج مـــــنـــــضـــــبـــــط

لا تستطيع الولايات المتحدة تجنب الصراع مع الدول الصغيرة بالكامل ولا يُفترض أن تتجنبه أصلاً. غالباً ما تكون التهديدات التي تطرحها هذه الدول حقيقية وقد تسمح معالجتها باستكمال الاستراتيجية التي تُركّز على المنافسة بين القوى العظمى. لهذا السبب، ستتابع الولايات المتحدة الاتكال على التقنيات القسرية أو حتى القوة العسكرية لتحقيق مصالحها.

لكن خلال الحقبة المقبلة، ستحتاج الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قوتها فيما تقترب قوى منافِسة مثل الصين من مواكبتها. لتحقيق هذه الغاية، يجب أن يرفع الأميركيون سقف خططهم المرتبطة بالتورط في صراعات مع الدول الصغيرة، ويجب أن يخوضوها وهم يدركون بالكامل حجم المصاعب المرتقبة وضرورة إطلاق مسار واضح وواقعي لتحقيق النجاح المنشود.

يتطلب هذا النهج المنضبط من الولايات المتحدة أن تحلل تكاليف أي حملة قسرية على المدى الطويل قبل أن تقرر إطلاقها وأن تُقيّم طريقة تأثير أي مسار عمل على الخطط الأخرى، لا سيما أهم الأولويات بنظرها. كذلك، يجب أن يفكر صانعو الخطط السياسية ملياً برأي الدولة المستهدفة بالمطالب الأميركية وطريقة ردها عليها، ومن الأفضل أن يحصروا تلك المطالب بالنقاط الضرورية للحفاظ على المصالح الأميركية. في الوقت نفسه، يُفترض أن يبدي صانعو السياسة استعدادهم لدعم مطالبهم بكل مصداقية من خلال استخدام مجموعة أدوات مثل القوة المحدودة التي تثبت استعدادهم لأخذ المجازفات وتجاوز التدابير المبهمة مثل العقوبات. على الكونغرس حينها أن يستعمل أدواته المتشعّبة لمراقبة الحملات القسرية التي لا تصل إلى مستوى الحروب، فينظّم مثلاً جلسات استماع وينشئ لجاناً مستقلة للمشاركة في تقييم تكاليف الحملات القسرية ومنافعها على المدى الطويل تمهيداً لتوجيه القرارات السياسية المستقبلية.

في الوقت نفسه، يجب أن تبذل الولايات المتحدة قصارى جهدها لحشد الدعم من حلفائها في الحملات القسرية. لكن يتطلب هذا الهدف مجموعة مقايضات: ستكون مطالب الدول الأكبر حجماً أقل قوة على الأرجح، لكنها ستحصد دعماً أوسع. كذلك، من المتوقع أن تتقاسم الأطراف تكاليف الحملة على نطاق أكبر وقد تسمح مساهمات الشركاء بتخفيف أو تبديد الخلاف الذي تُسببه تدابير معينة، مثل فرض العقوبات، بين الحلفاء علماً أن التعاون بينهم سيكون ضرورياً لإطلاق مبادرات سياسية أخرى لها أولوية كبرى.

لكن يُفترض أن تقلق واشنطن من احتمال الانجرار إلى صراعات شركائها في الدول الصغيرة. قد يؤدي التدخل الأميركي في المهاترات القائمة بين تلك الدول إلى تحويل الخلافات التي يمكن السيطرة عليها إلى صراعات وجودية، ما يعني تضييق فرص التسوية بدل تحسينها. كذلك، يجب أن ترفض الولايات المتحدة بلا تردد الربط بين التهديدات الإقليمية والعالمية. غداة هجوم 11 أيلول، تكاثرت الصراعات الصغيرة جزئياً لأن الولايات المتحدة اعتبرتها جزءاً من "الحرب العالمية على الإرهاب". قد تدفع فكرة مماثلة بالأميركيين إلى الربط بين الصراعات الإقليمية والمنافسة القائمة بين القوى العظمى. تصبح الدول الصغيرة أحياناً عميلة لخصوم القوى العظمى، لكنها تشكّل في مناسبات كثيرة مصدر إلهاء لها أيضاً.

إذا أرادت الولايات المتحدة أن تقيم توازناً بين الرؤية الحكيمة وفك الارتباط وبين المهام الاقتصادية و"الحروب اللامتناهية"، يجب أن تتعامل مع الصراعات بانضباط وبصيرة ثاقبة. تكون الجهود الرامية إلى تغيير تصرفات الخصوم الصغار جزءاً من سياسة خارجية واسعة ترتكز على المنافسة بين القوى العظمى، حتى أنها قد تصبح مُكمّلة لها. لكن قد تؤدي الصراعات مع الخصوم الصغار، في حال التعامل معها بتهور، إلى استنزاف القوة الأميركية مع أن الولايات المتحدة بأمسّ الحاجة إليها اليوم.