بين وحشية نتنياهو وبطشه اللامحدود، وغرور خامنئي وأوهام قوّته، سُحِقَ الجنوب تحت "طوفان" السّنوار. من منظار إسرائيل، هي أرض محروقة حتّى عودة مستوطني الشمال وتحقيق أهدافها. في سياسة إيران، إنّها مجرّد "حافّة أمامية" تضمن نفوذها وموطئ قدمها، حتّى لو كانت فاتورتها خراب "الهيكل". أمّا في المفهوم الوطنيّ، فهي قرى لبنانية اختُطِفَ قرارها وزجّ مصيرها في الهاوية رُغماً عنها. وعندما يكون الحاضر الأكبر هو تغييب المصلحة اللبنانية، يسهل عندها التضحية والتلاعب، بحياة أكثر من 800 ألف جنوبي، يعيشون على مساحة تُغطي حوالى 1045 كلم مربّع، من الـ 10452.
إزاء هذا الواقع المُرقّط بالدم والنار، يجد مسيحيّو الشريط الحدودي ذاتهم محاصرين، بين لعنَتَيْ التاريخ والجغرافيا. يدفعون مجدّداً ثمن تثبيت "لبنان الكبير"، إذ صُلِبوا معاً مرّات ومرّات، منذ نشأة الجمهورية عام 1920 إلى عهد "فتح لاند" وصولاً إلى "طهرانستان"، في ظلّ دولة مجاورة، تُتقن فنّ اقتناص الذرائع، وتمتلك كلّ ما يخطر في البال من خططٍ جهنّمية وأدواتٍ تدميريّة.
بين المغادرة والمغامرة
في علما الشعب والقوزح ويارون، أُجبر الأهالي على ترك أراضيهم وأحلامهم ومواسمهم المحروقة، بعدما قُصفت بيوتهم في الأشهر الأولى من الحرب. في دبل، نزح قسم من أهلها بعد سقوط "قذائف طائشة" وصواريخ مباغتة على بعض المنازل واستشهاد عائلة من ثلاثة أفراد، فيما عَزَمَ آخرون (حوالى 180 شخصاً) على البقاء مع ما يحمله هذا القرار من مخاطر أمنية ومعيشية.
في عين إبل، وعقب طلب إخلائها واستهداف بعض منازلها، نزح قسم من أبنائها نحو جبل لبنان، فيما لجأ القسم الآخر إلى دير سيّدة البشارة في رميش. وتُعد الأخيرة أكبر البلدات المسيحية في لبنان من حيث المقيمين، إذ كان يسكنها قبل الحرب نحو 7 آلاف نسمة، ومع توسّع المعارك البريّة، بقي فيها حوالى 5 آلاف شخص. أمّا القليعة، وبعد ورود اتصالات إسرائيلية تطالب أهلها بالمغادرة، فأصرّت 520 عائلة من أصل 800 على البقاء.
في السياق، نفى مُنسّق "القوّات اللبنانية" في منطقة بنت جبيل جوزيف سليمان عبر "نداء الوطن"، ما ورد في بعض وسائل الإعلام، "أنّه وجّه رسالة إلى السفارة الأميركية للإستفسار عن مصير مفاوضات إطلاق النار، أو إجراء اتصالات مع مرجعيات دينية وعسكرية ودبلوماسية، لمساعدة أبناء عين إبل في العودة الآمنة إلى منازلهم"، مشدّداً على أن "عودتنا متعلّقة بخلوّ عين إبل من أي مظاهر عسكرية أو معارك بين أطراف النزاع".
على من يتّكلون؟
قبل معرفة الجواب، سؤال يطرح ذاته: لماذا يريدون البقاء؟ أليس من الأفضل لهم أن يحموا رؤوسهم عند صراع الأمم؟ يُشدّد كاهن رعية القليعة الأب بيار الراعي على أنّ "وجودنا هو فعل إيمانٍ وثمرة نضال تاريخي لكنيستنا وأجدادنا. والفعل الثاني هو من أجل الحفاظ على بيوتنا وقرانا". وفي ردّه على بعض مطلقي الفتن والخطابات التخوينية، أكّد أن "هؤلاء غريبون عن الجنوب، فعلاقاتنا مع الجوار الشيعي كما السنيّ والدرزي، قائمة على التعاون والمحبّة. وعندما تضع الحرب أوزارها، ستكون بلداتنا المسيحية حاضنة لإخواننا الشيعة، كما فعلنا أثناء حرب تمّوز. وإذا كانت "المناطق الآمنة" تُهمة في نظر البعض، فهي تُشكّل اليوم الملجأ الأخير لأهالي الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية النازحين من براثن الحرب".
من جهته، يُشير الموفد الخاص لرئيس "القوّات اللبنانية" سمير جعجع إلى الجنوب جان العلم، إلى أنّ العلاقة العميقة بين لبنان والفاتيكان، وحرص الكرسي الرسولي على تجذّر المسيحيين في أرضهم، دفعت بالسفير البابوي باولو بورجيا إلى زيارة رميش ودبل وعين إبل مرّتين في خضم المعارك والوقوف على حاجياتها الإنسانية والاجتماعية. ومع توسّع العملية البريّة الإسرائيلية وارتفاع منسوب التّهديد الوجودي، شدّد العلم على ضرورة إيفاد موفد رسولي لطمأنة الأهالي الصامدين وتشجيع عودة النازحين.
ختاماً، تجدر الإشارة إلى أنّ رئيس الرابطة المارونية السفير خليل كرم، رفع خلال زيارته الأخيرة إلى الفاتيكان، اقتراحاً مهمّاً يقضي بإرسال موفد بابوي للإقامة في بلدة رميش أو القليعة، أسوة بما فعله البابا يوحنا بولس الثاني عندما أرسل موفداً شخصياً هو المونسنيور سيليستينو بوهيغاز إلى جزين عام 1985، واتخذ له مقرّاً فيها لغاية عام 1990. وعلمت "نداء الوطن" أن هذه المبادرة ستتّضح نتائجها في الأيام القليلة المقبلة.