على الرغم من ارتفاع منسوب التوتر الأميركي - الروسي الناجم عن ضرب كييف لمواقع داخل الأراضي الروسية باستخدام صواريخ أميركية متطوّرة، بالتوازي مع تحديث "القيصر" فلاديمير بوتين للعقيدة النووية الروسية وتشبيه موسكو "الأجواء التصعيدية" الحالية بأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، إلّا أن عين "النسر" الأميركي تظلّ شاخصة بشكل أساسي في اتجاه "التنين" الصيني الذي يزداد نفوذاً وقوّة باطراد.
تعتبر الصين "العدوّ الجيوسياسي" رقم واحد للولايات المتحدة. وهذا التصنيف يُحتم على إدارة الرئيس المُنتخب دونالد ترامب المقبلة ايجاد حلول سريعة قدر الإمكان للحروب المشتعلة، خصوصاً في أوكرانيا والشرق الأوسط، لإعادة ترتيب الأولويات والاهتمام بمنطقة المحيطَين الهندي والهادئ الاستراتيجية، التي ستساهم إلى حدّ كبير في رسم ملامح النظام الدولي قيد التبلور وتحديد مدى "ثقل" كلّ من بلاد "العم سام" و"التنين الأصفر" فيه.
التحذير الأخير الذي جاء على لسان قائد القيادة الأميركية في "الهندي والهادئ" الأميرال صامويل بابارو من أن الصراعَين في أوكرانيا والشرق الأوسط يلتهمان مخزونات الدفاع الجوي الأميركي، ما يفرض ثمناً على استعداد الولايات المتحدة في أقصى شرق آسيا حيث تواجه الخصم الأكثر قدرة في العالم، أي الصين، خير برهان على حاجة أميركا إلى نقل تركيزها وأصولها أكثر فأكثر إلى تلك المنطقة التي يرجّح أن تغيّر وجه المعمورة.
استفادت الصين من المعضلات والحروب لتوسيع نفوذها الدبلوماسي والسياسي وتعزيزهما، فضلاً عن شرائها للنفط بأسعار متدنية من روسيا وإيران. وبعدما استنزف في "المستنقع الأوكراني"، صار "الدب الروسي" أكثر اعتماداً على الصين ومصانعها وقدراتها الانتاجية الهائلة، وتالياً بدأت تتعمّق روابط "حلف" مناوئ للمصالح الغربية بـ "قيادة بكين" وتشتدّ أواصره. ويؤدّي نظام كيم جونغ أون الشيوعي في كوريا الشمالية ونظام الملالي في إيران، "أدواراً ثانوية" مؤثرة في "حلف الشرّ" هذا، وفق توصيف خبراء غربيين.
تتبادل بيونغ يانغ وطهران "الخدمات" مع موسكو التي تسخّر كلّ علاقاتها لحشد العناصر والموارد الضرورية لتحقيق مكاسب في الميدان الأوكراني، حتّى وصل الأمر بإبرامها "صفقة سرّية" مع كوريا الشمالية تزوّد بموجبها الأخيرة روسيا بما قد يصل إلى عشرات الآلاف من جنودها للقتال ضدّ القوات الأوكرانية في "حرب الكرملين المقدّسة"، في وقت يحرص فيه نظام كيم على إبقاء شبه الجزيرة الكورية واقفة فوق فوهة بركان قد ينفجر عند أي سوء تقدير أو حساب خاطئ.
وسط هذه التطوّرات الدراماتيكية التي تُهدّد بتوسّع حروب متقدة أو تفجّر ساحات خامدة، لا تتردّد الصين للحظة بالظهور في موقع الحريص على تهدئة النزاعات وإطفاء نيرانها بطرح نفسها وسيطاً لحلّها، بينما تدفع في اتجاه فرض هيمنتها على مساحات شاسعة في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، حيث لجيرانها حقوق سيادية مشروعة. ولن تفوّت بكين أي "فرصة ذهبية" للسيطرة على "النجمة الماسية" المتلألئة قبالة سواحلها، وأتكلّم هنا عن جزيرة تايوان.
تقف تايوان على "خط الدفاع الأوّل" في وجه الهيمنة الصينية على المنطقة، ويمتدّ هذا "الطوق" الجيوسياسي والعسكري لـ "المهندس الأميركي" على طول ساحل الصين الشرقي، من كوريا الجنوبية والأرخبيل الياباني مروراً بتايوان وصولاً إلى الأرخبيل الفيليبيني. وبما أن الجزيرة في نظر الصين بمثابة "حلقة مفقودة" مطلوب إعادتها إلى "العقد الشيوعي الأصفر" المتكامل، ولو بعضلات "جيش التحرير الشعبي" المفتولة بلا خبرات قتالية حقيقية حتّى اللحظة، تبقى رادارات واشنطن متأهّبة لرصد أي تحرّك خارج عن المألوف.
تحتلّ "أشباه الموصلات"، السلعة الاستراتيجية التي تعتبر تايوان رائدة عالميّاً في صناعتها، مكانة خاصة في "النزال الجيوستراتيجي" بين واشنطن وبكين. وتعوّل تايبيه على وهج "سلاحها التكنولوجي" الأمضى، لفرض تدخل عسكري أميركي مباشر للحؤول دون غزو الصين للجزيرة، إذا ما اتخذت بكين قراراً بذلك مستقبلاً. اعتمدت واشنطن مبدأ "الغموض الاستراتيجي" لعقود مضت في شأن ما إذا كانت ستتدخل عسكريّاً لمنع احتلال تايوان، فيما وطّدت علاقاتها مع الجزيرة وصلّبتها بدعم مالي وعسكري سخيّ.
سيعمل ترامب حين يجلس في المكتب البيضوي على طيّ صفحة الحروب القائمة، بغية توجيه طاقات بلاده في "الاتجاه المصلحي" الصحيح لضمان التفوّق في "مبارزة القرن" مع "الغريم الأخطر" على المسرح الدولي. وهذه "المواجهة" التي تبدأ بالتجارة والتكنولوجيا ولا تنتهي بالانفلاش العسكري والنفوذ السياسي، قد تبقى "باردة" وتقي البشرية شرّ حرب عالمية جديدة، لكنّ المخاوف من "ارتفاع حرارتها" تؤرق المراقبين الذين يتوجّسون من تحوّلها إلى "صدام هرمجدوني" لم يشهد العالم مثيلاً له.