ما إن أُعلن الاتّفاق على وقف إطلاق النار بين إسرائيل و "حزب الله" حتّى اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي شعارات مثل "انتصرنا" أو "انتهى الحزب" أو غيرها. لكن أقلّ ما يقال عنها إنّها غير واقعيّة.
للبدء، يمكننا القول إنّ نتيجة الحرب التي بدأها "حزب الله" بعيدة كلّ البعد عن الانتصار. منذ الأيّام الأولى للحرب، كان الأمين العام الراحل للحزب السيّد حسن نصرالله قد أعلن بوضوح أهدافه الاستراتيجيّة، وهي : تخفيف معاناة أهل غزّة من خلال فتح "جبهة الإسناد"، وربط مصير الجبهتين بأي تسوية قد تحصل، بمعنى آخر فرض معادلة "لا وقف إطلاق نار في لبنان دون وقف إطلاق نار في غزّة". وهذا ما عجز "حزب الله" عن تحقيقه، بالإضافة إلى تكبّده خسائر ضخمة مثل اغتيال كامل قيادات الصفّ الأوّل والثاني والثالث، وعمليّتي تفجير أجهزة "البيجر" واللاسلكي، وخطف العديد من عناصره، واحتلال جزء من الجنوب اللبناني، ونزوح أكثر من مليون شخص، وتدمير معظم القرى الحدوديّة، وكذلك بنية "الحزب" التحتيّة وأنفاقه ومصارفه ومخازن صواريخه وأسلحته. فالسؤال اليوم يُطرح: إذا كان هذا هو الانتصار، فما هو طعم الهزيمة؟
إلّا أنّ فشل "حزب الله" في تحقيق أهدافه الاستراتيجيّة لا يعني أنّه قد انتهى. لفهم ذلك، لا بدّ من قراءة بنود اتّفاق وقف إطلاق النار ومقارنتها باتّفاقيّات أخرى أُبرمت في الماضي، والتي كانت سيّئة السمعة بتطبيقها (اتّفاق القاهرة عام 1969) أو عدم تطبيقها (القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي عام2006). فكلاهما كانا مجرّد قنابل موقوتة أدّت إلى انفجار الوضع لاحقاً، وذلك لأنّ المشاكل الأساسيّة لم تحلّ، عنينا بها عناوين كالسيادة والنظام السياسي والسياسة الخارجيّة وإلخ...
تنازلت الدولة اللبنانيّة عن سيادتها عندما قرّرت توقيع اتّفاق القاهرة عام 1969 الذي سمح للفلسطينيّين المقيمين في لبنان بالمشاركة في العمليّات الفدائيّة المسلّحة ضدّ اسرائيل، وذلك مقابل عدم تدخّلهم في الشؤون اللبنانيّة الداخليّة. وهذا أمر مستحيل بمجرّد ما أصبح قرار الحرب والسّلم خارج إطار الدولة. في ذلك الوقت، اقتصرت عمليّات الفدائيّين ضدّ اسرائيل على المنطقة الحدوديّة، أي جنوب نهر الليطاني، وذلك لسببين: حيازة المقاتلين الفلسطينيّين صواريخ قصيرة ومتوسّطة المدى فقط، وسهولة توغّلاتهم البريّة في الأراضي الفلسطينيّة للقيام بعمليّات كومندوس مثل "مذبحة معالوت" في 15 أيّار 1974 أو "عمليّة الخالصة" في 4 تشرين الثاني 1974. والباقي تاريخٌ أسود للبنان…
منذ توقيع اتّفاق القاهرة، لم تتمكّن يوماً الحكومة اللبنانيّة من فرض سلطتها وسيطرتها وهيبتها على الجنوب، الذي أصبح أرضاً مستباحة أمام الجميع باستثناء الدولة اللبنانيّة. الخطورة اليوم تكمن في تكرار نفس السيناريو الذي حدث في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 أو من بعد الحرب عام 2006، أي انتشار دون سيطرة للجيش اللبناني على مناطق جنوبيّة محدّدة.
أمّا اتّفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ اليوم، فيستند بشكل أساسي إلى القرار 1701 الذي لم يطبّق أصلاً. فمعظم بنود الاتّفاق تشير فقط إلى المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني، التي يجب أن تكون خالية من سلاح "حزب الله"، حتّى ولو نصّت المقدّمة على نزع سلاح جميع الميليشيات بشكل عام. على سبيل المثال، ينصّ البند رقم 5 من الاتّفاق الجديد على ما يلي: "ستكون القوّات العسكريّة والأمنيّة الرسميّة، والبنية التحتيّة، والأسلحة اللبنانيّة هي المجموعات المسلّحة الوحيدة، والأسلحة، والمعدّات ذات الصلة التي سيتمّ نشرها في منطقة جنوب الليطاني". السؤال هنا يبقى: ماذا بخصوص الأسلحة الموجودة شمال نهر الليطاني؟ ماذا لو احتفظ "حزب الله" بسلاحه وصواريخه وبنيته التحتيّة في تلك المنطقة؟ ما الفائدة من ذلك إذاً؟
الجواب أنّ علّة وجود سلاح "حزب الله" سقطت للمرّة الأولى منذ زمنٍ طويل، عندما تمّ استخدامه في الداخل اللبناني لتغيير موازين القوى لصالح فريقه. وسقطت هذه العلّة للمرّة الثانية عندما قرّر الحزب أن يشارك في حروب إقليميّة، لا سيّما في سوريا. ومن ثمّ للمرّة الثالثة عندما أثبت "حزب الله" عجزه عن ردع إسرائيل وعدم قدرته على حماية لبنان واللبنانيّين. فهل تسقط علّة وجود هذا السّلاح للمرّة الرابعة مع تراجع "الحزب" إلى شمال نهر الليطاني، أي على بعد مسافة 40 كيلومتراً من الحدود التي ادّعى حمايتها وما يزال؟
يبقى أنّ هكذا سيناريو مستبعد للغاية، وذلك لأسبابٍ عدّة، منها أنّ معظم مقاتلي "حزب الله" هم في نهاية المطاف سكّان القرى الجنوبيّة، ولن يغادروها. فالجميع يعلم، و "حزب الله" أوّلاً، أنّ معادلة "جنوب/شمال الليطاني" هي مجرّد هراء.
أمّا الحلّ، فقد يكمن في تطبيق كافّة بنود اتّفاق وقف إطلاق النار دون استثناء، لا سيّما البند السّادس الذي ينصّ على "منع إعادة تشكيل أو إعادة تسليح المجموعات المسلّحة غير التابعة للدولة" (أي "حزب الله")، والبند السّابع الذي ينصّ في فقرته الأولى على "مراقبة وتنفيذ الإجراءات ضدّ أي دخول غير مصرّح به للأسلحة والمعدّات ذات الصلة إلى لبنان وعبره، بما في ذلك من خلال جميع المعابر الحدوديّة".
الرهان اليوم ليس على "حزب الله"، بل على الشّرعيّة اللبنانيّة والجيش اللبناني. هذه المرّة، الجيش الإسرائيلي لن ينسحب ما دام الجيش اللبناني لا يتحمّل مسؤوليته. المجتمع الدولي يدرك تماماً أنّ تطبيق هكذا اتّفاق يتطلّب دعم المؤسّسة العسكريّة بالدرجة الأولى، وهذا ما ينصّ عليه الاتّفاق أصلاً. كما يدرك تماماً أنّ فشل تطبيق الاتّفاق يعني دخول لبنان والمنطقة في دوّامة العنف والدّمار والتهجير من جديد. اليوم، هناك عدوّ واحد والجميع يعرفه: الوقت. فقد تسمح الهدنة لـ"حزب الله" بإعادة تكوينه من جديد تمهيداً للجولة القادمة. المعادلة باتت واضحة جدّاً : إمّا أن نطبّق الاتّفاق بكافّة بنوده، أو نحوّله إلى اتّفاق قاهرة جديد وننتظر تفجير القنبلة الموقوتة.