تعتبر "ولاية الفقيه" من المفاهيم السياسية التي ظهرت في إيران في القرن العشرين، تحديداً بعدما تبناها آية الله الخميني كأساس للنظام الحاكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ومع ذلك، وبالنظر إلى جذور هذه النظرية، لا يمكن اعتبارها فكرة إسلامية أصيلة؛ بل هي فكرة فارسية مبتكرة لا تمت إلى التراث الإسلامي بصلة. إنها تجسد تداخلاً بين المفاهيم السياسية الفارسية القديمة والتأويلات الفقهية الحديثة التي نشأت ضمن السياق الإيراني.
الجذور الفارسية لفكرة ولاية الفقيه
لفهم طبيعة "ولاية الفقيه"، لا بد من تتبع جذورها التي لا تقتصر على الفكر الشيعي التقليدي، بل تنبع أيضاً من التراث السياسي الفارسي الذي لطالما ارتبط بالسلطة المطلقة. وفي هذا السياق، تعد فكرة الولي الفقيه امتداداً لفكر سياسي فارسي قديم كان يقدس الحاكم بوصفه الممثل المباشر لإرادة الله على الأرض. وقد استمر هذا الفكر حتى العصور الحديثة، حيث طوّر الصفويون العلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية، ما مهد الطريق لفكرة ولاية الفقيه التي تبناها الخميني.
إن النظام السياسي في إيران منذ عهد الصفويين كان يعتمد على دمج السلطة الدينية مع السلطة السياسية، حيث كان للفقهاء دور بارز في إدارة شؤون الدولة. إلا أن الخميني قام بتجديد هذا الفكر وأعطى الفقيه دوراً استثنائياً في تقرير مصير الأمة، إذ جعل من دور الفقيه في "ولاية الفقيه" دوراً لا يقتصر على الإرشاد الديني فقط، بل أصبح يشمل السلطة السياسية المطلقة.
ولاية الفقيه: فكرة بعيدة عن الإسلام التقليدي
إن جوهر نظرية "ولاية الفقيه" يختلف بشكل كبير عن المفاهيم الإسلامية التقليدية بشأن السلطة السياسية. في الفكر الإسلامي التقليدي، تعتبر السلطة السياسية جزءاً من الشورى (التشاور) بين الحاكم والمجتمع، كما أن فكرة "الولاية" تقتصر على الإمام المعصوم في المذهب الشيعي. وعند غياب الإمام المعصوم، يمكن للعلماء استناداً إلى اجتهاداتهم أن يمارسوا دوراً رقابياً من دون أن يتحولوا إلى ممثلين عن الله على الأرض.
لكن الخميني، في اجتهاده الفقهي، قدم رؤية مختلفة بتطويره لفكرة "ولاية الفقيه" التي تمنح الفقيه سلطة واسعة على جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية، ويُفترض أن هذه السلطة تأتي من تفويض إلهي. هذا الاجتهاد يناقض الفهم التقليدي للسلطة في الإسلام، حيث لا يمكن لأي فرد أن يتحدث باسم الله أو أن يُعتبر ممثلاً للإرادة الإلهية على الأرض.
التحدث باسم الله: الأبعاد السياسية لفكرة ولاية الفقيه
من أبرز التبعات الخطيرة التي تترتب على تبني نظرية "ولاية الفقيه" هي أن الفقيه يُعتبر متحدثاً باسم الله. وفقاً لهذه النظرية، لا يتصرف الفقيه بناءً على اجتهاد شخصي أو في إطار الشريعة الإسلامية فقط، بل يصبح في نظر أتباعه "ممثلاً لإرادة الله على الأرض". هذه الفكرة ترفع من مكانة الفقيه إلى درجة تعطيه صلاحيات غير محدودة، ويُنظر إليه على أنه المرجع الأعلى، أي الشخص الذي لا يمكن الطعن في قراراته.
بالتالي، عندما يقرر الولي الفقيه القيام بعمل معين، سواء كان في المجال المدني أو السياسي أو العسكري، يُعتبر قراره تكليفاً إلهياً، يتحتّم على جميع المؤمنين الالتزام به وتنفيذه دون أي اعتراض، حتى وإن كانت نتائجه غير مرضية.
الهزيمة والانتصار: مفهوم متغير في نظرية ولاية الفقيه
من الأبعاد الأكثر إثارة للجدل التي تنبثق من هذه النظرية هي كيفية معالجة الفقيه للهزائم والانتصارات في السياقات السياسية والعسكرية. فإذا كان الفقيه يتحدث باسم الله، فإنه وفقاً لهذه النظرية لا مكان للهزيمة، وإلا لكان الله قد هُزم، وهو أمر مستحيل. بالتالي، إذا فشلت الأمة في تحقيق أهداف معركتها، تصبح نتيجة المعركة على الدوام "انتصاراً" بمعايير إلهية.
وبهذا المعنى، يمكن اعتبار أي هزيمة في نظر "ولاية الفقيه" فوزاً روحياً أو خطوة نحو تحقق وعد إلهي بعيد المدى. هذا الفهم يعكس الإيمان المطلق بالنصر النهائي للإرادة الإلهية، وبالتالي يطوّع الفقيه أي واقع سياسي أو عسكري ليتوافق مع تفسيره للدين. وفي هذا السياق، تصبح الهزيمة، على الأقل من الناحية النظرية، غير قابلة للمناقشة أو التفسير السلبي في نظر الجمهور المؤمن بنظرية ولاية الفقيه، مما يسمح للفقيه بمواصلة فرض سلطته على العباد والادعاء بأن نتيجة المعركة، حتى وإن أبيد جيش الإسلام ودمرت أرض المسلمين، يمكنه القول شرعاً وقانوناً وفقاً لهذه النظرية أن نتيجة المعركة كانت انتصاراً.
خلاصة: فكرة فارسية بامتياز
عليه، يمكن القول إن "ولاية الفقيه" هي نظرية سياسية وفكرية ليست جزءاً من التراث الإسلامي التقليدي، بل هي فكرة فارسية مبتكرة نشأت ضمن السياق السياسي الإيراني. وهذه النظرية لا تستند إلى القرآن أو سنة النبي بشكل مباشر، بل هي نتيجة لتفسيرات فقهية معاصرة دمجت بين الفكر السياسي الفارسي التقليدي والفكر الشيعي الحديث.
وعلاوة على ذلك، فإن فكرة "التحدث باسم الله" وإضفاء طابع إلهي على قرارات الفقيه، بالإضافة إلى تفسير الهزائم على أنها انتصارات، تعكس تداخلًا بين السلطتين الدينية والسياسية الذي لا يمكن إيجاده في النصوص الإسلامية الأصلية. وهذا ما يجعل "ولاية الفقيه" أكثر صلة بالتراث السياسي الفارسي القديم منها بالفقه الإسلامي الأصيل، ويؤكد أن هذه النظرية لا تعكس المفاهيم التي قامت عليها الشريعة الإسلامية أو التراث العربي.