في عالم الرياضة، لا تُعدّ الإصابات مجرد عائق أمام اللاعبين لتحقيق أحلامهم، بل هي قضية معقدة تتشابك فيها العوامل البدنية والنفسية والبيئية. إذا كان اللاعبون في أوروبا، الذين يتمتعون ببنية تحتية رياضية متطورة وعشب طبيعي في الملاعب، يعانون من الإرهاق والإصابات، فكيف هو الحال في لبنان، حيث تغلب على ملاعبه الأرضيات الاصطناعية ويتراجع مستوى التأهيل الطبي والوعي الوقائي؟
في لقاء خاص مع ملحم شمص، المعالج الفيزيائي الذي يعمل مع الاتحاد اللبناني لكرة القدم ونادي العهد، تمّ تسليط الضوء على هذه القضية الملحة. شمص، بخبرته الطويلة، شرح الأسباب العلمية للإصابات الرياضية وأساليب الوقاية الحديثة، مسلطاً الضوء على الفجوة بين ما يواجهه اللاعبون في لبنان ونظرائهم في أوروبا.
البيئة القاسية
الملاعب اللبنانية، المكسوة بالعشب الاصطناعي، تمثل تحدياً كبيراً لأجساد اللاعبين. بحسب شمص، يفتقر العشب الاصطناعي إلى المرونة الطبيعية الموجودة في العشب الطبيعي، مما يؤدي إلى زيادة الضغط على المفاصل والأربطة، بالإضافة إلى التوقف المتكرر للدوري والاستشفاء السلبي، كل هذا يعزز من احتمالية التعرض لإصابات شائعة مثل:
* إصابات الرباط الصليبي الأمامي (ACL): تحدث نتيجة الحركات الدورانية المفاجئة، التي تتطلبها اللعبة في أرضيات تفتقر إلى الامتصاص الطبيعي للصدمات.
* تمزقات العضلات: تسببها الاحتكاكات العالية بين الحذاء وأرضية الملعب، مما يقلل من مرونة العضلات.
* إجهاد الكاحل: الأرضية الصلبة تزيد من احتمالية التواءات الكاحل المتكررة.
وفي ما يخص حلول للوقاية في ظل غياب العشب الطبيعي يعطي شمص بعض العلاجات تساعد اللاعبين في مسيرتهم:
*تمارين تعزيز الأربطة: مثل القفز الجانبي لتقوية الركبة والكاحل.
*التكيّف التدريجي: اللعب تدريجياً على العشب الاصطناعي لتحسين قدرة الجسم على التعامل مع صلابته.
*استخدام الضبان الطبي: لتوزيع الضغط على القدمين بشكل متوازن، وتقليل العبء على المفاصل.
العضلات التحدي الأكبر
الإصابات العضلية، وفقاً لشمص، شائعة جداً بسبب غياب التحضير البدني السليم في لبنان. من أبرزه شد عضلات الفخذ الخلفية (Hamstring Strain) نتيجة التمدد المفرط أثناء الركض السريع. وتمزقات عضلات الساق (Calf Muscle Tears) بسبب الإجهاد المتكرر خلال القفز أو الركض. أما طرق الوقاية والتعامل مع الإصابات العضلية من وجهة نظر شمص الطبية: "التدفئة الديناميكية لتحضير العضلات قبل التمارين المكثفة، التبريد بعد التمارين لتجنب تشنج العضلات وتقوية العضلات الداعمة من خلال تدريبات القوة والمقاومة.
ويرى شمص أن استخدام ضبان (Medical insoles) طبي مصمم خصيصاً لكل لاعب يمكن أن يقلّل بشكل كبير من الإصابات. هذا الضبان يعمل على توزيع الضغط بشكل متساوٍ على جميع أجزاء القدم، مما يخفف العبء عن الكاحل والركبة، وامتصاص الصدمات الناتجة عن التغيرات المفاجئة في الحركة، وتصحيح التشوهات الهيكلية مثل تسطح القدم (Flat Foot) أو تقوس القدم الزائد (High Arches).
عندما يتحوّل الإهمال إلى كارثة
من الأخطاء الشائعة بين اللاعبين اللبنانيين، كما يوضح شمص، هو تجاهل الإصابات البسيطة واستمرار اللعب، مما يؤدي إلى مشاكل مزمنة مثل التهاب الأوتار (Tendinitis) نتيجة تكرار الحركات دون استشفاء صحيح، ومتلازمة الإجهاد القصبي (Shin Splints) بسبب الإجهاد المستمر على الساقين دون راحة. وبرأيه يكون الحل في الوقاية والوعي الذهني من خلال برامج التأهيل طويلة الأمد لضمان استعادة اللاعب للياقته الكاملة، بالإضافة إلى تدريبات ذهنية لتعزيز وعي اللاعبين بأهمية الوقاية والعلاج.
إرهاق رغم العشب الطبيعي
حتى مع البنية التحتية المتقدمة، يعاني اللاعبون في أوروبا من الإصابات بسبب كثافة المباريات، التي تمنع الجسم من الاستشفاء الكامل. أكثر الإصابات شيوعاً هي الإرهاق العضلي المتكرر نتيجة قلة الراحة بين المباريات وكسور الإجهاد (Stress Fractures) بسبب الضغط المستمر على العظام.
أما الوقاية في أوروبا فتكون من خلال جدولة فترات الراحة لتقليل العبء البدني والاستشفاء النشط، مثل السباحة لتعزيز تدفق الدم والتغذية المتوازنة لتسريع شفاء الأنسجة المتضررة.
حتى في دوري كرة السلة الأميركي (NBA)، حيث تتوفر أفضل الفرق الطبية، تزداد الإصابات بسبب الاعتماد الكبير على الراحة السلبية (Passive Recovery)، يوضح شمص أن هذا النهج يضعف العضلات بدلاً من تقويتها. والبديل من خلال تمارين تعافٍ ديناميكية لتحسين المرونة والأداء، كما اليوغا والبيلاتس لتجنب التصلب العضلي.
كيف نكسر قيود الإصابات؟
يشدّد ملحم شمص على أن الإصابات الرياضية ليست قدراً محتوماً، بل هي نتيجة يمكن التخفيف من آثارها أو حتى تجنبها إذا ما تحلّى اللاعب اللبناني بالوعي الطبي اللازم. فاللاعب الواعي هو أول خط دفاع عن صحته، مما ينعكس إيجاباً على مسيرته الرياضية بتقليل فرص التعرض للإصابات.
المسؤولية هنا مشتركة، إذ يجب أن تتعاون الأندية، الاتحادات الرياضية واللاعبون أنفسهم، لخلق بيئة رياضية مستدامة. البداية تكون بتطوير البنية التحتية الرياضية وتطبيق برامج تدريب وتأهيل ترتكز على أحدث الأبحاث العلمية. إلى جانب ذلك، يصبح اللجوء إلى الأطباء المختصين عند الحاجة خطوة ضرورية لضمان معالجة سليمة وسريعة لأي إصابة.
إذا تمكنت الرياضة اللبنانية من تبني هذه الرؤية الشاملة، سنشهد جيلاً جديداً من الرياضيين القادرين على تحقيق إنجازات محلية ودولية من دون أن تقيدهم الإصابات التي لطالما أعاقت طموحاتهم. فالرياضة ليست مجرد هواية أو لعبة، بل هي منظومة علمية متكاملة تتطلب استثماراً مستمراً في العقول، الجهود والموارد.