على الرغم من تحقيق الاستخبارات الأميركية للعديد من النجاحات، غير أنها عرفت أيضاً إخفاقات مُهينة. ومن أبرز الأمثلة على ما اعتُبر قصوراً في أدائها: هجوم بيرل هاربور في 7 ديسمبر 1941، حرب يوم الغفران المعروفة أيضاً بحرب أكتوبر 1973، الثورة الإيرانية في أغسطس 1978، الغزو السوفياتي لأفغانستان الذي بدأ في ديسمبر 1979، انهيار الاتحاد السوفياتي في ديسمبر من عام1991، هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 وانهيار سوريا البعثية في 8 ديسمبر 2024.
لكن ما يهمّنا من هذه الإخفاقات تلك التي أشارت إليها مؤخراً صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في مقال عنوانه "أخطأت الاستخبارات الأميركية في تقديرها للنتائج الكارثية المُحتملة لتصعيد جيش الدفاع الإسرائيلي عملياته ضد "حزب الله"، حيث أكّدت تقييمات الاستخبارات الأميركية التي سبقت التصعيد الإسرائيلي في سبتمبر 2024، أن مثل هذه الخطوة قد تؤدي إلى إشعال حرب شاملة يذهب ضحيتها المئات، وربما الآلاف، من الإسرائيليين. لكن وفي غضون أيام قليلة عادوا واعترفوا بعدم دقّتها وذلك بعدما قضى الجيش الإسرائيلي بشكل منهجي على جزء كبير من قدرات "حزب الله" الصاروخية والمسيّرات، وعلى معظم أعضاء قيادته العُليا، وقتل وجرح الآلاف من عناصره، وفكّك بُنيته التحتيّة العسكرية في الجنوب اللبناني.
لكن في لبنان، وعلى الرغم من نتائج الميدان التي من المفترض أن تحسم الحرب، وفقاً لقادة "حزب الله"، لا تزال المعارضة مُتردّدة في التفاعل مع الواقع الجديد، وكأنها ما زالت تعتمد على تقييمات الاستخبارات الأميركية التي أمعنت في تضخيم قوة هذا "الحزب". أو ربما ما زالت تتأثّر بخطاب قادته الذين يدّعون النصر ويُصرّون على استفزاز شركائهم في الوطن، من منطلق أن الحقيقة والسياسة لا تتقاسمان أرضية مشتركة. خاصة وأن الكذبة الحديثة تتبّع النهج ذاته الذي تقوم عليه الأيديولوجية، حيث ترفض كل الأدلة المناقضة لادعاءاتها وتتجاهل الحقائق الواضحة. إضافة إلى ذلك، فإن مفهوم "الهندسة اللغوية" الذي مارسه "حزب الله" لسنوات طويلة بهدف التحكّم في المجتمع اللبناني ليس بالأمر الجديد؛ فقد استخدمه كسلاح لتوجيه الفكر وتنميط السلوك. في الحقيقة، مكّنه هذا النهج من فرض إملاءاته على السلوكيات الجماعية، ما أدى في نهاية المطاف إلى حالة من "الانضباط الذاتي" لدى المجموعات الأخرى، التي تبنّت تلك السلوكيات بشكل غير واعٍ.
في ظل هذا الواقع، غالباً ما تُجبر المعارضة على تبرير موقفها وشرح قضيتها باستمرار. لكن غني عن القول إن اللجوء إلى الشرح يُظهرها في موقف دفاعي، مما يحدّ من قدرتها على الهجوم أو دفع قضيتها إلى الأمام. فإذا بها عاجزة عن التماسك حتى في موقفها الدفاعي، خصوصاً في ظل بيئة وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تنتشر حملات التضليل ضدها وتفرض عليها تحدّياً آخر، لمواكبة الروايات المُتغيّرة باستمرار على تلك المنصّات. ورغم محاولاتها المُتكرّرة، تجد المعارضة صعوبة في الحفاظ على استمرارية تأثيرها على المدى الطويل، وذلك بسبب الضغوط المتواصلة التي تتعرّض لها وتعدّد الجبهات والتحدّيات التي تواجهها بشكل مُتزايد. لا شك أن معركة الرأي العام تُعدّ من أصعب المعارك، خاصةً في ظل التصوّرات والروايات التي قام إعلام الممانعة ببنائها على مدار سنوات طويلة. في المقابل، كانت المعارضة تكافح من أجل البقاء بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مما حال دون قدرتها على إيصال سرديتها بالشكل الذي ترغب فيه. فتمكّنت الممانعة من التفوّق عليها في المجال الإعلامي والالتفاف على محاولاتها، مما زاد من صعوبة كسب الرأي العام لصالحها.
علاوة على ذلك، لم تبذل المعارضة جهوداً كافية لتسويق مشروعها السياسي بل اقتصر خطابها على الخطوط العريضة المتعلّقة ببناء المؤسسات ورفض السلاح غير الشرعي، دون التطرّق إلى خطة عملية للمضي قدماً. من هنا تبرز أهمية توحيد القيادات واعتماد سياسة واضحة تتجاوز الولاءات الحزبية الضيقة. عندها يصبح ممكناً التخطيط لمواجهة الرواية الأخرى بفعاليّة، والانتقال إلى الخطوات الأساسية لإنشاء وإطلاق حملة سردية مضادة قادرة على تغيير مسار الرأي العام لصالحها بشكل مستدام.