هشام بو ناصيف

أحوال العالم: صمود الليبراليّة... صعود اليمين

يعيش العالم تطوّرات ستترك أثراً على مسار العلاقات الدوليّة لعقود قادمة.


أطلق الذكاء الاصطناعي موجة تغيّرات تكنولوجيّة عميقة لا نزال ببداياتها، سيكون لها تبعات على الاقتصاد، والسياسات الدفاعيّة، وتالياً على الصراع المحموم بين القوى العظمى الساعية للحفاظ على الستاتيكو، أو لتحدّيه.


ثمّ أنّ التقلّبات المناخيّة مستمرّة، والاستقطاب الحالي بين أقطاب النظام الدولي، فضلاً عن الاستقطاب المجتمعي الداخلي عندهم، لا يسمح بتوحيد الجهود بمواجهة الاحتباس الحراري. سأتوقف بهذا المقال عند مسألتين من المسائل الأساسيّة التي تحرّك حاليّاً السياسة الدوليّة، عنيت صمود الأنظمة الليبراليّة، وصعود القوى اليمينيّة بالديمقراطيّات الغربيّة.


لسنوات خلت، خيّمت على مؤيديّ الليبراليّة بالعالم أجواء تشاؤميّة بعد انحسار التحوّلات الديمقراطيّة التي أطلقها انهيار الاتّحاد السوفياتي لصالح الأنظمة الأتوقراطيّة، لا سيما ما اصطلح على تسميته بأنظمة الرجل القوي.


بدا الاقتصاد الصيني كقوّة غير قابلة للإيقاف، وبدا تالياً أنّ الحزب الشيوعي الصيني قدّم نموذجاً جذّاباً أكثر من الليبراليّة الغربيّة، عنيت ثنائيّة أتوقراطيّة سياسيّة / رأسماليّة اقتصاديّة.


من جهة ثانية، تبخّر حلم تحوّل روسيا من الديكتاتوريّة إلى الديمقراطيّة الذي حرّك المخيّلات بالتسعينات، وبدا أنّ فلاديمير بوتين ينتقل من انتصار إلى انتصار، في سوريا، وجورجيا، والقرم، وأنّ الولايات المتّحدة استسلمت بعهد الرئيس السابق باراك أوباما للنفوذ الإيراني بالشرق الأوسط، وأنّ موجة القوى الشعبويّة تهدّد الأنظمة الديمقراطيّة الحديثة العهد بانتكاسة. نعلم اليوم أنّ معادلة موازين القوى بين الديمقراطيّات وخصومها لم تتحرّك بما يكفي ضدّ المعسكر الليبرالي كي نخشى جديّاً عليه. الاقتصاد الصيني يتباطأ بينما يعيد الاقتصاد الأميركي إنتاج نفسه كالأكثر ديناميكيّة عالميّاً. مغامرة فلاديمير بوتين بأوكرانيا ردّت بلاده عقوداً إلى الوراء، وخسائر روسيا البشريّة نكبة ديموغرافيّة لها، علماً أنّ الديموغرافيا الروسيّة متباطئة أصلاً.


فإذا ما أضفنا إلى المعادلة تضعضع المحور الإيراني بالشرق الأوسط، والسقوط المدوّي لنظام بشّار الأسد بسوريا، يبدو المشهد الأتوقراطي عموماً إلى تراجع لا العكس، وسط تساؤلات مبرّرة عن قدرة النظام الإيراني على الصمود، مع انفضاح صورة ضعفه الاقتصادي، والعسكري، والأهمّ، الإيديولوجي. باختصار، توحي أحداث السنة الماضية أنّ الاحتفاليّة الأتوقراطيّة بذاتها لم تكن مبرّرة، وأنّ الكلام المتكرّر لشي جينبينغ بالصين، ولفلاديمير بوتين بروسيا، عن حتميّة قيام نظام دولي جديد تحلّ فيه قيمهما مكان الليبراليّة الغربيّة مجرّد لغو رغبوي.


ولكنّ كلّ ما سبق لا يلغي أنّ التحديّات التي تواجهها الديمقراطيّات الغربيّة جديّة، لا سيّما صعود قوى جديدة على يمين المشهد السياسي. فكّر بالولايات المتّحدة على سبيل المثال.


انتهت الولاية الأولى لدونالد ترامب على وقع حدثين جللين بأيّ معيار: من جهة، رفض ترامب الاعتراف بنتائج الانتخابات التي أفضت إلى وصول الديمقراطي جو بايدن إلى السلطة.


ومن جهة ثانية، هجم أنصار ترامب على الكابيتول بواشنطن احتجاجاً على خسارته، وسقط ضحايا من المهاجمين ومن عناصر الشرطة المدافعة عن الكابيتول، وسط مشهد بدا جديراً بدول متعثّرة بالعالم الثالث، لا بعاصمة الديمقراطيّة الغربيّة.


لو كان تمسّك الناخبين الأميركيّين بالقيم الليبراليّة بالقوّة المطلوبة، لكان ما جرى كفيلاً بانهاء مسيرة ترامب السياسيّة إلى الأبد؛ لكنّ شيئاً من هذا لم يحصل. وإذا ما أضفنا إلى الأحداث الأميركيّة، الأزمة السياسيّة الحقيقيّة التي تعيشها فرنسا، وألمانيا، بدا المشهد الليبرالي عموماً بغير ما يشتهيه المنحازون له قيميّاً.


والحال أنّ التطوّرات الدوليّة شديدة التعقيد حاليّاً. والأكيد أنّ عودة دونالد ترامب لصدارتها ستزيدها تعقيداً، لأنّ مدى التزامه بقواعد اللعبة الأساسيّة، بالداخل الأميركي، وبالعلاقات الدوليّة، غير واضح.