أنطوني فينشي

الثورة القادمة في شؤون الاستخبارات

19 أيلول 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

على مر التاريخ البشري، لطالما تجسس الناس على بعضهم البعض. لاكتشاف ما يفعله الآخرون أو يخططون له، لجأ البشر إلى عمليات المراقبة والتنصت عبر أدوات شهدت تحسناً متواصلاً من دون أن تصبح يوماً بديلة عن أسيادها البشر. لكن بدأت ابتكارات الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة تُغيّر هذا الوضع اليوم. ستتمكن الآلات مستقبلاً من التجسس على الآلات لمعرفة ما تفعله أو تُخطط له. سيبقى العمل الاستخباري مرتبطاً بسرقة الأسرار وحمايتها، لكن ستختلف طريقة جمع تلك الأسرار وتحليلها ونشرها حتماً.

لا تظهر الثورات من العدم! تعود جذور الثورة في شؤون الاستخبارات إلى القرن العشرين، حين أضفت تقنيات جديدة، مثل الاتصالات والحوسبة، بُعداً متطوراً ومختلفاً على عالم الاستخبارات. بقي البشر عملاء استخباريين، لكن بدل أن يراقبوا بعيونهم ويتنصتوا بآذانهم ويحللوا ويتوقعوا بعقولهم، اتكلوا على أجهزة استشعار تزداد قوة مع مرور الوقت وأدوات محوسبة أخـــرى لتعزيز قدراتهم.

في آخر عشرين سنة، تسارعت هذه النزعة وترافقت مع زيادة هائلة في كمية البيانات التي تتلقاها وكالات الاستخبارات.اليوم، تستطيع أجهزة الاستشعار السرية والتجارية، بدءاً من الروبوتات في الشبكات وصولاً إلى الطائرات المستقلة بلا طيار والأقمار الاصطناعية الصغيرة في الفضاء، أن تنتج كمية معلومات ما كان البشر ليستوعبوها وحدهم يوماً. في العام 2017، توقعت "الوكالة الوطنية للاستخبارات الجغرافية المكانية" أن تزيد البيانات التي يضطر العاملون لتحليلها بمليون مرة خلال خمس سنوات. أدى تلقي البيانات بهذه السرعة إلى تأجيج المنافسة المحتدمة أصلاً لفهم جميع المعلومات، ومهّدت هذه النزعة في الوقت نفسه لاعتماد الأتمتة وتحليـــلات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي. نتيجةً لذلك، أصبحت الضغوط التي يتعرض لها الناس لمواكبة هذا التطور هائلة: ستتفوق الدول التي تنجح فيها وكالات الاستخبارات في معالجة كميات ضخمة من البيانات المعقدة سريعاً على البلدان التي تعجـز عن ذلك.





على صعيد آخر، ترافق الانتقال الموازي إلى استعمال الأنظمة المستقلة والـــــــذكاء الاصطناعي في أوساط جيوش العالم مع تأجيج الضغوط التنافسية: يجب أن تتمكن وكالات الاستخبارات من استهداف الأنظمة الحربية المتقدمة ودعمها. يُشغّل الجيش الأميركي أصلاً أكثر من 11 ألف نظام جوي بلا طيار وعدداً إضافياً من الأنظمة الفضائية والأرضية وأخرى تحت الماء. كذلك، يجب أن تتعامل وحدات الأمن السيبراني الأميركية مع ملايين الروبوتات في الشبكات العالمية ومليارات الأجهزة التي تعمل بنظام "إنترنت الأشياء" وتكون على شكل أجهزة استشعار.اليوم، تحتاج هذه الأنظمة المتطورة أكثر من أي وقت مضى إلى إمكاناتها الاستخبارية الخاصة كي تعمل بالشكل المناسب، ما يعني أنها ستتحول مع مرور الوقت إلى جهات أولية ناشطة في عالم الاستخبارات.

سيكون الانتقال إلى أنظمة مستقلة لاستعمالها كأهداف استخبارية ثورياً بدرجة إضافية: في تلك المرحلة، تبدأ الآلات بالتجسس على آلات أخرى وتقوم بخداعها. وفق أحد السيناريوات المستقبلية المحتملة، قد يُكلَّف نظام عامل بالذكاء الاصطناعي بتحليل سؤال معيّن (هل يستعد أحد الخصوم لخوض الحرب مثلاً؟). يشغّل العدو نظاماً ثانياً قد يضخّ البيانات عمداً في النظام الأول للتشويش على تحليلاته. حتى أن النظام الأول قد يدرك الخدعة الحاصلة ويقضي على البيانات المزيفة ويدّعي أنه لم يفعل ذلك، ما يعني أنه يخدع الطرف المخادع. لطالما كان هذا النوع من الخداع بين الجواسيس جزءاً من العمل الاستخباري، لكنه سيأخذ مكانه قريباً بين الأنظمة المستقلة بالكامل. وسط هذه الحلقة المعلوماتية المغلقة، يمكن إتمام العمليات الاستخبارية ومكافحة التجسس من دون تدخل البشر.

لفهم المسائل التي أصبحت على المحك، يمكن التفكير بمقارنة من عالم المال. تتكل أنظمة التداول الكمّية على خوارزميات تستشعر التغيرات في أسواق الأسهم العالمية وتُحلل كميات ضخمة من البيانات لإطلاق التوقعات ثم تنفذ عمليات تجارية تلقائية خلال أعشار الثانية. لا يستطيع البشر أن يقتربوا من هذه السرعة أو نطاق العمل هذا. لمواكبة المنافسة القائمة، بدأت أهم شركات الاستثمار تكثّف اتكالها على أنظمة التداول الكمّية. وفي خضم المنافسة على اكتشاف الأسرار، ستزيد حاجة وكالات الاستخبارات إلى الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة أيضاً.





نحو تكييف عالم الاستخبارات مع التطورات

حين تتحول الآلات إلى أول جهة تُستعمل لجمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها واستهلاكها واستهدافها، سيصبح عالم الاستخبارات الأميركية كله بحاجة إلى التطور. يجب أن يبدأ هذا التطور باستثمارات ضخمة في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات المستقلة، ويجب أن تطاول التعديلات مفاهيم العمليات التي تُمكّن الوكالات من معالجة كميات ضخمة من البيانات ونقل المعلومات الاستخبارية المشتقة من هذه العملية إلى الآلات المستقلة مباشرةً. حين يصبح كل شيء متصلاً بشبكات تنتج شكلاً معيناً من الإشارات الكهرومغناطيسية أو البيانات، يجب أن تشكّل استخبارات الإشارات جزءاً من ثورة الذكاء الاصطناعي. ينطبق المبدأ نفسه على الاستخبارات الجغرافية المكانية. في ظل تكاثر الأقمار الاصطناعية وأجهزة استشعار أخرى، سيصبح كل شيء في العالم مرئياً من الفضاء طوال الوقت. لمواكبة هذه البيانات كلها، يجب أن تُطوّر الاستخبارات الجغرافية المكانية إمكانات الذكاء الاصطناعي فيها بطريقة جذرية.

تنقسم أوساط الاستخبارات الأميركية في الوقت الراهن إلى وظائف مختلفة تقضي بجمع أنواع منفصلة من المعلومات الاستخبارية وتحليلها، على غرار استخبارات الإشارات أو الاستخبارات الجغرافية المكانية. قد تُجبِر الثورة المستجدة الأوساط الاستخبارية على إعادة تقييم هذه الانقسامات. تبقى المعلومـــات الكهرومغناطيسية على حالها سواء اشتقت من قمر اصطناعي أو من جهاز عامل بنظام "إنترنت الأشياء". لا أهمية كبرى لاختلاف أصل الأنظمة إذا لم يطّلع أي إنسان على البيانات الخام، ويستطيع نظام الذكاء الاصطناعي أن يتعرّف على الأنماط السائدة في جميع البيانات دفعةً واحدة. سيتلاشى الانقسام بين الاستخبارات المدنية والعسكرية بالطريقة نفسها لأن البنية التحتية المدنية، على غرار أنظمة الاتصالات، ستصبح أساسية لتحقيق الأهداف العسكرية بقدر أنظمة الاتصالات العسكرية. أمام هذه الوقائع، قد يؤدي فصل الوظائف إلى إعاقة العمليات الاستخبارية بدل تسهيلها.

قد تتطلب الثورة في شؤون الاستخبارات إنشاء منظمات جديدة أيضاً. إذا كان الإنسان الفردي جزءاً من أسس الاستخبارات في السابق، يمكن نَسْب هذه الصفة اليوم إلى الأجهزة (جزء من برنامج أو جهاز استشعار أو طائرة مستقلة بلا طيار). من المتوقع أن يزيد تركيز العمليات الاستخبارية على تلك الأدوات، ما يعني التجسس على الأجهزة بحد ذاتها وعلى المصممين والمطوّرين وسلاسل الإمدادات أيضاً. في المستقبل القريب، سيصبح فهم الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الأنظمة المستقلة وسلاسل الإمدادات والرساميل الاستثمارية مهماً بقدر ما كان فهم الفكر الأصولي الإسلامي ضرورياً في الماضي. قد تحتاج الولايات المتحدة إلى منظمات جديدة لدراسة هذه المجالات. في الحد الأدنى، يجب أن توسّع مديرياتها الاستخبارية الاقتصادية والتكنولوجية القائمة، مثلما عمدت سابقاً إلى توسيع وحدات مكافحة الإرهاب بعد هجوم 11 أيلول.

فيما تتطور الأوساط الاستخبارية الأميركية كي تتمكن من مواكبة الثورة في شؤون الاستخبارات، يجب أن تحدّ من قدرة الخصوم على القيام بالمثل من خلال إبطاء أو كبح قدرتهم على التحكم بالاستخبارات التي تُحرّكها الآلات. نتيجةً لذلك، ستزداد أهمية إعاقة التصاميم والتطورات الحاصلة في مجال الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة الخاصة بالأعداء. تتطلب هذه العملية تحركات سرية، على أن تنفذ الآلات جزءاً منها. على سبيل المثال، تستطيع الولايات المتحدة أن تضخّ بيانات خاطئة في نظام التعلم الآلي الذي يستعمله أحد الأعداء لخداع الذكاء الاصطناعي المضاد أو تعطيله.

لكن مثلما تستهدف الولايات المتحدة تقنيات الذكاء الاصطناعــي والأنظمة المســتقلة الخاصة بخصومها، لا مفر من أن تستهدف الأجهزة الاستخبارية المعادية الأنظمة الأميركية بدورها. نتيجةً لذلك، يجب أن تنشئ الولايات المتحدة دفاعات جديدة وتعتمد أشكالاً مختلفة من تقنيات مكافحة التجسس. لخوض هذه المنافسة، يحتاج المسؤولون عن مكافحة التجسس إلى مهارات الخداع التي كانوا يتكلون عليها دوماً، لكن يجب أن يوسّعوا أيضاً خبرتهم الاقتصادية والتقنية أكثر من أي وقت مضى. في المحصّلة، ستفرض الثورة في شؤون الاستخبارات تغيرات مستجدة على جميع المستويات الاستخبارية، بما في ذلك المنظمات والتدريبات والتكنولوجيا ومفاهيم العمليات ومكافحة التجسس.





الــثــورة تــبــدأ مــن الــبــشــر

قد لا تعود عمليات جمع المعلومات وتحليلها حكراً على البشر أو مهاماً يُكلّف بها البشر في المقام الأول، لكنّ هدفها النهائي سيبقى متعلقاً بفهم الحكومات والمجتمعات والجيوش التي يقودها الناس. كذلك، يضفي البشر دوماً أجواءً من الإبداع والتعاطف والتفهم والتفكير الاستراتيجي على عالم الاستخبارات بطريقة لن تضاهيها الآلات في أي وقت قريب. نتيجةً لذلك، سيحافظ رؤساء الأقسام والمحللون على أدوار مهمة خلال مراحل طويلة من المستقبل مع أن طبيعة عملهم ستتغير حتماً.

الثورة في شؤون الاستخبارات آتية لا محالة، ويجب أن تتكيف الأوساط الاستخبارية معها وتتقبّلها بأفضل الطرق. سبق وأدت مقاومة التغيير إلى كوارث في الماضي. هذا ما حصل مثلاً حين رفضت البحرية الأميركية استبدال البوارج بحاملات الطائرات قبل الحرب العالمية الثانية. كانت القوات البحرية حينها بقيادة بحّارة لم يستوعبوا التقدم الهائل الذي يشهده قطاع القوة الجوية، وهذا ما سمح لليابان بإطلاق الهجوم المدمّر على ميناء "بيرل هاربر". كذلك، تخضع الأوساط الاستخبارية بشكلٍ أساسي اليوم لسيطرة جواسيس قد لا يدركون أو يتقبلون الفكرة القائلة إن العمل الاستخباري المبني على الآلات أصبح حتمياً. على وكالات الاستخبارات أن تكسر الحواجز الثقافية وتزيد استثماراتها في قطاع التكنولوجيا وتُخصّص مكاتب كاملة للذكاء الاصطناعي والذكاء القائم على الأتمتة. إذا رفضت الولايات المتحدة التطور في هذا الإطار، قد تجازف بمنح الصين أو أي خصم آخر تفوقاً تكنولوجياً تعجز واشنطن عن تجاوزه.