منذ سنوات، عُلّق نعي على جدار كنيسة في ساحل المتن الشمالي، أحد ممّن قرأوه لم ينسه. كان المرحوم أباً لرجال ونساء، لم يفلحوا في العلم وتركوا مقاعده باكراً، لكنّ ذلك لم يمنعهم عن الحلم. حقّقوا أحلامهم في نعيهم والدهم، فجميعهم سبقت أسماءهم "الدكتور" أو "الدكتورة". يستمرّ هذا النعي إلى اليوم مدعاة تندّر، حتى أنّ راهباً تقيّاً ورعاً لم يستطع إلّا أن يضحك ويتعاطف في الوقت عينه. يبدو أنّ النعي "متل الحكي ما عليه جمرك"، قالها ونظرة تعاطف مرح في عينيه.
أحلامهم لم تصمد في نعي والدتهم، خافوا من قهقهة بعض "الوقحين" أن تصل إلى آذانهم في العزاء فنزعوا ثوب "الدكترة" عنهم، إلّا فرداً واحداً من العائلة أصرّ على اللقب الذي منحه إيّاه نعي الوالد، ولهذا لم يتوقف الابتسام والهمس العالي في جنازة الوالدة.
نعم النعي سواء على جدران دُور العبادة وعلى صفحات الوفيات في الجرائد، أو في وسائل التواصل الاجتماعي، تلك النعايا التي يمرّ بها الكثيرون سريعاً بحثاً عن اسم مألوف، ليست مجرد إعلان عن رحيل أشخاص أعزّاء. هي أكثر من ذلك بكثير: إنها موسوعة يومية قد تختلط فيها التقاليد بالدعابة، الجديّة بالمفارقة، والمعلومات الاجتماعية بأسرار صغيرة قد لا تتاح في أي مكان آخر.
النعي يقول الكثير. مثلاً، قد تتسلّل الدعابة وسط الحزن، إذ يحمل نص النعي تفاصيل تعكس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. أحياناً، تُذكر أسماء الأبناء، والأحفاد، وحتى الأصدقاء، وكأنها "قائمة شرف" لمن بقي بعد الراحل. وفي بعض الأحيان، تبرز التفاصيل الطريفة، مثل ذكر علاقة الفقيد بشخص لم يكن من المتوقّع أن يُذكر، إنه دليل اجتماعي سريع، واللمّاح يلتقط المخفيّ، هل كان الفقيد "مقرشاً" أم لا؟ الجواب يظهر في نوع الخط المستخدم، وعدد الأسماء المذكورة في النعي (عائلة الزوجة، وعائلة الزوج، والأصدقاء، وربما "الرفاق"). كلّما زاد طول النعي وازداد عدد الألقاب المذكورة، تأكّد للقارئ أنّ الراحل كان يكدّس الأوراق الخضراء.
بين السّر والطرفة
أذكر قصّة نعي لرجل لبناني ثريّ ظهر فيه اسم المرحومة زوجته وأولاده، ثم فجأة ذُكر "أصدقاؤه وأحبّاؤه". بعد التحرّي، تبيّن أنّ هذه العبارة تشير إلى شريكة أخرى وأولادها. لغة لبقة لتجنّب الحرج، لكنها تترك مجالاً واسعاً للتأويل، بخاصة لجمهور القرّاء الذين لا يعرفون الفقيد والشغوفين بتفكيك الرموز.
على الرغم من طابعه الحزين، يحمل النعي أحياناً لمسات من الدعابة، سواء عن قصد أم دون قصد. أحد هذه النعايا كان يحمل اسم سيدة تُدعى "طانيوس" (عام 2012)، وهو اسم ذكوري بامتياز! هل كانت تلك غلطة مطبعية أم أنّ أهل تلك المسكينة أطلقوا عليها اسم صبي انتظروه ولم يأتِ؟ تفاصيل صغيرة كهذه تدفعنا للابتسام والضحك، رغم أنّ الخبر عن رحيل تلك "الطانيوس".
وكم أعجبني نعي صدر في صفحة الوفيات في كانون الثاني 2013، شممت منه رائحة أزهار في إناء، إذ قرأت فيه أسماء مزهرية ومارغريت وقرنفلة. إنه إعلان لمأتم أزهاره منه وإليه.
وكم كان عدد المدهوشين كبيراً يوم اكتشفنا الاسم الحقيقي لزميلة لنا، قرأناه في نعي والدها. أحد لم يتوقّعه ولا حتى عشّاق "الخواريف".
أرملته المرحومة
في يوم من أيام 2016، وأنا أقلّب صفحات الجريدة، استوقفتني عبارة في إعلان نعي: "أرملته المرحومة"، فتحت فمي على مصراعيه، كيف يمكن للأرملة أن تكون مرحومة؟ هل أنا أمام غلطة مطبعية أم محاولة لتكريس تقليد جديد يُجمع فيه الموتى معاً حتى لغوياً؟ لم تتضح الصورة أمامي، لكني ابتسمت لها طويلاً على الرغم من غموضها.
وفي يوم آخر من العام نفسه، قرأت عن موعد "محاضرة الدفن" في أحد الفنادق. ماذا يعني ذلك؟ هل نحن بصدد إعادة تعريف الجنازات كفرص تعليمية؟ أو ربما يتمّ تقديم "درس الحياة" الأخير للراحل قبل وداعه. هذه العبارات، مهما بدت غريبة، تعكس ذوقاً خاصاً في صياغة النعي: رسمية، جدية، ومع ذلك مفتوحة للتفسير، ومن يهوى قد يشهد للراحل!
من النعي إلى المراسم
في مكان ما بين مصانع الجعة في بلجيكا أو في قرية ألمانية صغيرة، قرّر عاشق للبيرة أن تكون مراسم وداعه أشبه بمهرجان بيرة. اجتمع الأصدقاء في حانة محليّة وهم يحملون أكواباً مثلّجة، وكأنهم يحتفلون بموسم "أكتوبرفست" مصغّر. كوباً بعد كوب، رفعوا النخب: "إلى عاشق البيرة، ملك الزجاجات الذهبية!".
أما في ريف إنكلترا، فقد كتبت سيدة إعلان وفاتها قبل رحيلها: "كفى! لن أستيقظ صباحاً بعد الآن". المراسم كانت احتفالاً بالألوان بدلاً من الأسود التقليدي، وحضر الجميع مرتدين ملابس زاهية، وكأنّهم في مهرجان "كارنابي ستريت" اللندني الشهير.
ومن أرياف فرنسا، وصل إلينا خبر وفاة مزارع يملك قطيع أبقار يحبّه كثيراً، أقيمت الجنازة في مزرعته الصغيرة. جعلوا أبقاره، الوفية كعادتها، تقف بالقرب من القبر، وكأنّها تودّع صاحبها. واحدة منها ألقت نظرة طويلة حزينة، بينما أخرى مضغت عشباً وكأنها تقول: "الحياة مستمرّة، تكريماً لك".
ومن جنوب إسبانيا، ووسط شوارع تضجّ بعشاق السيارات الكلاسيكية، انطلق الموكب الجنائزي لهاوي سيارات كلاسيكية، وهكذا على إيقاع المحركات العتيقة، وُضع نعشه داخل سيارته المفضلة، "ستيروين DS"، فبدا وكأنه يجول"جولته الأخيرة" نحو "جنّة عشاق السيارات".
في قرية صغيرة بريف توسكانا الإيطالي، كان وداع جدّة خيّاطة أشبه بعرض فني. ارتدى الجميع ملابس مشرقة ومزخرفة خاطتها لهم الراحلة في مناسبات سابقة.
بعد هذه السطور والأخبار دعونا نتّفق أنّ صفحات النعي والمراسم الجنائزية ليست مجرّد أخبار عن الموت، بل هي احتفاء بالحياة، بتناقضاتها، بحلوها ومرّها. إنها تذكير بأننا نعيش مرة واحدة فقط، وأنه حتى في لحظة وداعنا، يمكننا أن نترك أثراً يُضحك، يُبكي، ويُدهش. لذلك، إذا مررتَ يوماً بصفحة نعي، فلا تمرّ سريعاً. توقّف، إقرأ وتمعّن لأنك قد تبتسم. أو تقهقه أو تكتشف سرّاً يضحكك! |
من لبنان إلى العالم
قرأتُ أنّ المعلمة المتقاعدة إميلي فيليبس في ولاية فلوريدا الأميركية قرّرت أن تنعى نفسها بعبارتها الشهيرة: "وُلدتُ، رمشتُ، وانتهى الأمر". حتى في لحظاتها الأخيرة، كانت ترشد الجميع إلى الابتسام وعدم الاستسلام.
في إحدى المدن الأميركية، واصلت ماري بينك مولاني تقديم نصائحها الطريفة حتى في وداعها، إذ كُتب عنها في نعيها نصيحة "إذا وجدتم "أبو بريص" في سقفكم، فاستخدموا فرشاة شواء لإخراجه!".
في الولايات المتحدة أيضاً، كتب ويليام زيغلر نعيه وكأنه سيناريو لفيلم كوميدي: "هرب من هذا العالم الفاني، وترك وراءه أربعة أبناء، أحدهم كان المفضل لديه". ترك الجميع يضحكون وهم يتخيّلون أي ابن كان يقصد!