في أول كلام سياسي بعد خطاب القسم، قال الرئيس عون: "لم آتِ لأعمل في السياسة أنا آتٍ لبناء دولة". هذه الكلمات التسع تختصر 1369 كلمة في خطاب القسم. هل يعني ذلك أن العهد لن يشهد ظاهرة "حزب الرئيس"؟
وهل يخطط الرئيس ليكون رئيس حزب بعد ست سنوات؟ المسألة حساسة، لأن شروط بناء دولة محطمة لا تتوافق مع نظرية "حزب الدولة". يكفينا "حزب الله".
في المقابل، هيبة جوزاف عون ونزاهته كفيلتان بأن يستند إلى قاعدة وطنية عارمة تطيح كل العوائق أمام قراره وتصميمه على بناء "الدولة". وبطبيعة الحال الشعب اللبناني موزع بين أحزاب وتيارات سياسية وفكرية، و"رجل دولة" من طراز جوزاف عون مهمته إعادة بناء المؤسسات، وأن يجمع كل الشعب وكل الأحزاب تحت سقف الدستور، وهذه ليست بالمهمة السهلة، لأن كل الرؤساء السابقين فشلوا في ذلك، وعليه أن ينجح حيث فشلوا.
غالباً ما يُذكر الرئيس فؤاد شهاب كمثال ناجح، وهذا غير دقيق، فشهاب لم يأخذ حقه إلا بعد سنوات على مماته. عهده شابه الانقسام الوطني، لا العسكر ولا "المكتب الثاني" ولا القوة السياسية العابرة للطوائف (النهج) التي التفّت حوله، مكَّنوه من شيء.
لقد أتيح للشهابية أن تحكم من خلال أربعة رؤساء هم، فؤاد شهاب وشارل حلو والياس سركيس ورينيه معوض. الأربعة تدرجت "شهابيتهم" تبعاً للظروف ولشخصيتهم.
أربع فرص انتهت إلى أربع خواتيم حزينة. والمصارحة تقتضي الاعتراف بأن جوزاف عون لن يُتاح له ما أُتيح لشهاب لأسباب يطول شرحها، لذا من الحكمة عدم استعمال أدوات الحكم التي استعملتها "الشهابية". أربع تجارب تكفي.
ولا بد من التدقيق عند الربط بين الشهابية وبناء الدولة. كان شهاب رجل مؤسسة اسمها الجيش، لا بل مؤسسها. ومن الأدق وصفه "رجل مؤسسات"، على أمل أن يكون جوزاف عون "رجل دولة". فما السبيل لينجح جوزاف عون حيث فشل فؤاد شهاب؟
الواضح أن عبرة الماضي ألّا نكرر تجاربه. نحن اليوم متأخرون 35 سنة عن تصديق "دستور الطائف" عام 1990، وكل المطلوب تطبيق هذا الدستور، إضافة إلى ما استجد من قرارات دولية، لا أكثر ولا أقل. ومرة جديدة يمكن الاتّعاظ من التجربة الشهابية.
تَمَسَّكَ فؤاد شهاب بـ "الدستور"، ولكن الدستور كان عنوان الانقسام الوطني. ورينيه معوض، "الشهابي" أيضاً، قتله تمسكه بدستور "الطائف"، خلافاً لوصاية "نظام الأسد". بالتكافل والتضامن ارتكب ميشال عون ونظام الأسد جريمتي وأد دستور الطائف، واغتيال رينيه معوض. بأي إحساس كان ميشال عون يستقبل في قصر بعبدا ميشال معوض نجل الرئيس الذي قُتل لأنه مُنع من دخول القصر؟ فرصة العهد أن الانقسام حول الدستور في حد أدنى، والوصاية على الدولة إلى زوال. كل المطلوب "رجل دولة"، لـ "دولة الطائف"، وعون من هذه الطينة، وعسى أن تكون كلمة "عهدي" تعني هذا "التعهد".
عام 2017 ذهب ميشال عون إلى السعودية "راعية الطائف" في أولى رحلاته، بعدما علقت المملكة برنامج مساعدات عسكرية بقيمة ثلاثة مليارات دولار على خلفية ما اعتبرتها "مواقف عدائية" من جانب بيروت، ناتجة من خضوع لبنان لـ "حزب الله".
بعد ثماني سنوات على الزيارة الفاشلة، السعودية أيضاً المحطة الخارجية الأولى للرئيس الجديد. كأن تصويت النواب الخميس المنصرم جاء تصديقاً مكرَّراً لاتفاق حصل في الطائف السعودية بتاريخ 23 تشرين الأول 1989. خمسة رؤساء تعاقبوا في الزمن الضائع، حتى وصل جوزاف عون، في زمن جديد. وكل الآمال أن يكون عهده جديداً على الصعد كافة.