ايلي الياس

لا تشوّهوا التاريخ خدمةً لسرديات سياسية موقتة

يدّعي البعض أن لبنان كان دائماً تحت وصاية القناصل والقوى الأجنبية، في محاولة لتبرير الأزمات الراهنة بتحميل المسؤولية على العوامل الخارجية. لكنّ هذا الادّعاء يغفل عن التعقيد التاريخي الذي شكّل هوية لبنان ودوره في المنطقة. فالحقيقة أن لبنان لم يكن أبداً مجرّد نتيجة لتدخلات أجنبية، بل كان نتاجاً لتفاعلات داخلية وخارجية متشابكة، أرست قواعد كيان سياسي فريد.



الامتيازات الأجنبية: نافذة على التداخل بين الداخل والخارج

مع بداية القرن السابع عشر، شهدت الدولة العثمانية تزايداً في دور القناصل الأجانب نتيجة لما يُعرف بالامتيازات الأجنبية Capitulations. هذه الامتيازات التي بدأت كترتيبات دبلوماسية تهدف إلى تعزيز التجارة الأوروبية داخل السلطنة، سرعان ما تطوّرت إلى أدوات نفوذ سياسي واجتماعي. ومن أبرز المحطات في هذا السياق الاتفاقية، الامتياز، التي وقّعها السلطان سليمان القانوني مع الملك فرانسوا الأول ملك فرنسا.


هذه الامتيازات لم تقتصر على التسهيلات التجارية، بل منحت القناصل الفرنسيين سلطة قضائية وإعفاءات ضريبية، وحقوق حماية مباشرة من الباب العالي. توسّع النفوذ تدريجياً ليشمل قضايا دينية، حيث أصبحت القوى الأوروبية تتدخل لحماية الطوائف المسيحية داخل الدولة العثمانية. تولّت فرنسا والنمسا حماية الكاثوليك، وروسيا حماية الأرثوذكس، وبريطانيا رعاية الجماعات البروتستانتية الصغيرة إضافة إلى الطائفة الدرزية. وهنا، نلحظ أن الامتيازات لم تكن مجرّد انعكاس لضعف السلطنة، بل كانت استجابة لحاجات اقتصادية وضغوط داخلية دفعت السلطنة إلى تقديم تنازلات مقابل تنشيط التجارة.



لبنان: تفاعل داخلي وخارجي

في هذا الإطار التاريخي، برز لبنان كحالة استثنائية بين ولايات السلطنة العثمانية. رغم تأثير الامتيازات الأجنبية، لم يكن لبنان كياناً خاضعاً بالكامل للنفوذ الأجنبي، بل إن نشوء نظام المتصرفية عام 1861 جاء نتيجة تفاعل عوامل داخلية وخارجية. المجازر الدموية بين الموارنة والدروز بين عامي 1840 و1860 والتي كانت انعكاساً لعوامل داخلية وخارجية، التي بلغت ذروتها في مجازر 1860، دفعت القوى الأوروبية، بقيادة فرنسا، إلى التدخل. أسفر هذا التدخل عن تأسيس نظام المتصرفية الذي منح جبل لبنان حكماً ذاتياً تحت قيادة متصرف مسيحي غير لبناني، مع مجلس إداري يمثل الطوائف كافة.


هذا النظام، وإن بدا وكأنه وصاية خارجية، كان في الحقيقة انعكاساً لتوازنات دقيقة بين الداخل والخارج، وسعى لتحقيق استقرار نسبي في منطقة تعجّ بالتنوّع الطائفي.



الحماية الأجنبية: تكامل أم تبعية؟

لم تكن الحماية الأجنبية التي شكّلت إحدى ركائز السياسة اللبنانية مجرّد حالة تبعيّة، بل كانت أداة للتوازن. إدراك الآباء المؤسّسين للبنان أن التدخلات الخارجية يمكن أن تخدم استقرار البلاد كان محوراً أساسياً في صياغة هوية الدولة. إعلان لبنان الكبير عام 1920، الذي أشار إليه الرئيس المنتخب جوزاف عون، لم يكن سوى امتداد لهذا الخيار اللبناني التاريخي للانفتاح نحو الحرية والتناغم مع المصالح الدولية.


الادّعاء بأن لبنان كان دائماً خاضعاً لوصاية القناصل يتجاهل الحقائق التاريخية التي تُظهر أن هذه الوصاية كانت غالباً استجابة لحاجة محلية. فرنسا، على سبيل المثال، لم تتدخل فقط لحماية المسيحيين، بل شاركت في بناء نظام سياسي يسعى لتحقيق توازن داخلي، وفي الوقت ذاته خدمة مصالحها.



قراءة نقدية للتاريخ

اليوم، وفي ظلّ الأزمات التي تعصف بلبنان، نحن بحاجة ماسة إلى قراءة نقدية لتاريخنا. التوازنات الدقيقة التي شكلت لبنان يجب أن تلهمنا حلولاً جديدة. إن تحميل الخارج مسؤولية الانهيار الداخلي هو هروب من مواجهة الواقع. فلبنان، على مرّ تاريخه، كان مثالاً حياً على كيفية تفاعل الداخل والخارج لتشكيل كيان سياسي فريد.


ما نحتاجه الآن ليس فقط تحليلاً للتاريخ، بل استلهاماً من جذوته اللبنانية المشتعلة دائماً، التي تنسجم مع حركة التاريخ في وجه تحديات إقليمية ودولية تسعى لإخمادها. قراءة التاريخ ليست فقط لفهم الماضي، بل لرسم معالم مستقبل قادر على تجاوز أزماته، والعبور نحو استقرار دائم.