شادي معلوف

تجربته من زمن اعتمد الموهبة قبل التقنيّات

ثمانون فارس يواكيم: قصص من تلفزيون ومسرح الزمن الجميل

في عمر الزمن يدخل اليوم الكاتب والباحث والصحافي اللبناني – المصري فارس يواكيم (الإسكندرية، 1945) عقده التاسع. ومنه يطلّ على تجارب رائدة في المسرح والتلفزيون اللبنانيّين، خصوصاً خلال عقدَيْ ستينات وسبعينات القرن الماضي.


من ألمانيا حيث يقيم، وحيث عمل سابقاً في الإعلام العربي هناك، يطلّ يواكيم، الزحليّ الجذور، في يوم ميلاده الثمانين، على ذكريات جميلة وحنين إلى أيام كان فيها "العاملون في الصحافة والإعلام يتّكلون، بالدرجة الأولى، على الموهبة البشريّة في غياب الخدمات التقنية الكثيرة المتوفرة حالياً". هنا نستوقفه ونطلب منه المزيد عن تلك الحقبة، فلا يبخل على قرّاء "نداء الوطن".


يحدّد فارس يواكيم، للحديث عن الكتابة والإعداد في مشواره، 3 محطات بارزة. "أتذكّر بصفة خاصة برنامج "سهرة مع الماضي" التلفزيوني، كنت أُعدّه وتقدّمه المذيعة المصريّة اللامعة ليلى رستم (التي رحلت عن عالمنا منذ أيام)، ومسلسل "المشوار الطويل" الذي أعيد عرضه مراراً، وعملي مع "مسرح شوشو" العريق.



سهرة مع الماضي

أسأله أن يعرّف القارئ، الذي من غير جيل "سهرة مع الماضي"، عن ذلك البرنامج التلفزيوني الذي كانت تقدّمه مذيعة مصرية على الشاشة اللبنانيّة، فيجيب "كان برنامج "سهرة مع الماضي" وثائقياً، يسجّل في كل حلقة سيرة شخصية شهيرة، تحاورها في الاستوديو ليلى رستم. كان أول عمل احترافي لي في مجال الإعلام. بناءً على نصيحة من ليلى، سعيتُ إلى إعداد سيناريو لكلّ حلقة، يكسر روتين هذا النوع من البرامج التي لا تختلف عن البرامج الإذاعية سوى أنها مصوّرة بالكاميرا". وهنا يشير يواكيم إلى أنّ المقابلات التلفزيونية، كانت وما زال بعضها هكذا إلى اليوم، قائمة على سؤال وجواب، بمعنى أنه ليس بالضرورة أن ينظر الجمهور إلى الشاشة، بل يكفي أن يسمع. لكنّ صاحب مؤلَّف "ظلال الأرز في وادي النيل: لبنانيون في مصر" يقول إنه أراد من برنامجه مع ليلى رستم أن يكون غير ما هو سائد، فقام الإعداد على "سيناريو يرسم سياق الحلقة التي يتقاطع فيها الحوار المباشر بين المذيعة والضيف، مع أفلام وثائقية قديمة وجديدة مصوّرة خصيصاً، وصور أرشيفية، ومداخلات من شخصيات ذات صلة، صداقة أو خصام، مع ضيف الحلقة الرئيسي.


أُلفتُه إلى أنّ زمنذاك، لم يكن هناك إنترنت ومعلومات متوفرة بـ "كبسة زرّ" ولم تكن "السوشال ميديا" موجودة، فكيف كنتم تتدبّرون؟ وكم كان عدد معاونيك في الإعداد؟ يخبر "كنت أُعدّ البرنامج بمفردي. أبحث في أرشيف الصحف عن المعلومات، ألتقي أشخاصاً ذوي خبرة كانوا يساعدونني في سرد ما يعرفونه عن ضيف الحلقة القادمة، وأذكر هنا الأديب بولس سلامة والصحافي لويس الحاج، وبعض الناس العاديين، ولا أنسى كهلاً في بلدة المختارة التقيته ونحن نصوّر قصر آل جنبلاط، نصحني أن أسأل كمال جنبلاط عن الشعر الفرنسي الذي كتبه ويخفيه".


هكذا إذاً بالبحث الشخصي المضني والتنقّل واللقاءات الشخصيّة كانت تُجمع الـ "Data" التي منها سيولد "Script" الحلقة، أي نصّ الإعداد الذي سيسلّم إلى المذيعة والفريق التقني.



دموع في عينيْ زاهية

هنا تلمع في ذاكرة فارس يواكيم ذكرى "صورة أطلعتني عليها زاهية سلمان (رائدة العمل الاجتماعي وحقوق المرأة والطفل) ترجع إلى أيام طفولتها في المدرسة المتوسطة. تذكّرتْ معظم رفاق الدراسة، وعن أحدهم قالت "هذا لم أره منذ أيام المدرسة. عرفتُ أنه صيدلي في منطقة الحدت". فذهبتُ والصورة في يدي "أمشّط" صيدليّات الحدت وجوارها، حتى عثرت عليه". يتابع يواكيم "دمعت عينا رفيق زاهية القديم حين رأى الصورة. فاتفقتُ معه وحضر إلى الاستديو ليلة تقديم الحلقة وأخفيناه خلف الديكور. ولدى ورود موضوع الصورة، كرّرت زاهية سلمان لليلى رستم ما قالته لي، فسألَتْها "بتحبّي تشوفيه؟" ابتسمت سلمان وقالت "وين بدي لاقيه؟!" فتوجّهت ليلى رستم خطوات ونادت الضيف، فظهر أمام زاهية سلمان والكاميرا بعد 40 سنة، وتولّت ليلى رستم ارتجالاً إدارة الحوار في المشهد!".


أسأل المعدّ المخضرم أن يصف لي ذاك النمط من العمل في غياب كلّ أنواع التسهيلات والتقنيات التي نعرفها اليوم، فيجيب بابتسامة "كان الإعداد مرهقاً بالفعل، لكن لم أعرف متعة مشابهة. تذاع الحلقة مساء الأربعاء وصباح الخميس يبدأ إعداد الحلقة التالية. ساعدني منير طقشي، رجل الإعلام والإعلان في التلفزيون، وجان كلود بولس مدير البرامج (ثم خَلَفه بول طنوس) وكميل منسّى رئيس تحرير نشرة الأخبار، في ترشيح ضيف وفي تسهيل الاتصال الأول به".



المشوار الطويل

أنتقل بفارس يواكيم إلى جانب آخر من حكايته مع القلم، وأسأله عن عنوان مضيء آخر في مشواره، ومشوار الدراما اللبنانية: "المشوار الطويل" (قصة مارسيل بانيول – سيناريو وحوار فارس يواكيم – إخراج الياس متّى). يقول يواكيم لـ "نداء الوطن" لقد "كان مشروعاً تكلّل بالنجاح الكبير. فيه أدّى شوشو ببراعة دوراً تغلب المسحة المأسوية على مشاهده، هو نجم المسرح الكوميدي". يترك هنا ملاحظة قبل أن يتابع، فيقول "شوشو، عملاق المسرح، كان يخسر شيئاً من بريقه أمام كاميرا السينما أو التلفزيون، بسبب غياب الجمهور المتجاوب"، ويكمل "لكنْ طبيعة الدَّور في "المشوار الطويل"، الذي لا يحتاج إلى سماع انفعال الجمهور المباشر، سهّلت مهمّته، وأحبّه الجمهور كثيراً. أمّا محمود المليجي، عملاق السينما المصرية، فلا يحتاج إلى كلمات تقدير مني. لكنّني أشير إلى أنّ موهبة هذا الفذّ تكمن في عينيه وحسن استخدامه لهما في تغيير التعبير بأقلّ من لحظة. كان يقرأ مشاهده قبل التصوير مراراً، ويستوعبها بالكامل. وفي البروفة يحتاج إلى ملقّن للتذكير ببعض الحوارات، ثم ينطلق في الأداء أمام الكاميرا بعفويّة مذهلة. ولا أنسى من هذا المسلسل مهندس الديكور هاغوب أصلانيان. لم تكن هناك إمكانيات تصوير خارجي، سوى بعض لقطات صامتة بكاميرا سينمائية 16 ميلليمتراً. ولم يصدّق المشاهدون المعجبون بالمسلسل أنّ المقهى والحارة الشعبية في الاستوديو، بل وكاراج تصليح السيارات، بل والباخرة أيضاً! و95 % من مشاهد المسلسل تصوير استوديو، وكلّها تبدو في أماكن حقيقية!".


تذكير للقارئ: كنّا في مطلع سبعينات القرن العشرين، فلا تقيسوا ما كان من تقنيات ومستلزمات، بما تملكه اليوم تلفزيوناتنا وشركات الإنتاج!



مسرح شوشو

لا يستقيم الحديث مع فارس يواكيم من دون المرور على "مسرح شوشو" اليومي، وإلا غدا المرء "متل اللي زار روما وما شاف البابا!" أسأل كاتب ومقتبس نصوص العديد من مسرحيات شوشو عن تلك الحقبة، فيصفها بـ "ظاهرة حدثت في بيروت ولم تتكرر. مسرح تقدّم فيه الفرقة ذاتها عروضها المسرحية 10 أشهر متّصلة بالسنة! أمام قاعة تتسع لـ 450 مقعداً ممتلئةً دوماً. إذا هبط الإقبال إلى 350 مشاهد ليلياً، يبدأ الاستعداد للمسرحية التالية. تجربة فريدة، لإعادة إنتاجها تحتاج إلى نجم بحجم موهبة وشعبية شوشو، وفرقة تضم كوكبة مواهب، وبيروت تشبه بيروت ذلك الزمان!"


نترك فارس يواكيم يفتتح عقداً جديداً من عمره الذي نتمنّاه له طويلاً، يُقلّب في ألبومات الصور ليختار لنا ما ننشره مع هذا الموضوع الصحافي. وفي البال سؤال: ماذا لو قُدّر لذاك الجيل من المبدعين الاستفادة ممّا نملكه اليوم من وسائل تقنية حديثة، ترى كم كانت حلّقت إبداعاتهم وأفكارهم وأعمالهم؟ 



بروفا بين شوشو والمليجي قبل تصوير مشهد من "المشوار الطويل" (أرشيف فارس يواكيم)



يواكيم وناديا لطفي (أرشيف فارس يواكيم)