لم يكن خطاب القسم خطاباً مما اعتدناه، جاء من قماشة جديدة في التخاطب السياسي الداخلي، لا شك أن من خاط كلماته عاين بدقة متناهية كل أنواع الفتوق في الجسد اللبناني المثخن بالجراح، وهو جاء كنسمة "الربيع" على صحراء مقفرة، فحركت "شاعرية" سجنتها السنوات الثقال حتى حين.
ساعد خيّاطه في صنع الأمل، تجربة استثنائية كتب فصولها الرئيس جوزاف عون في اليرزة، ولو لم تكن التجربة لما كان الخطاب.
قائد يعلنها جهاراً: "القانون هو ما يبقي المؤسسة العسكرية على قيد الحياة، متمتعة بكل أسباب الصمود ومقوماته"، لا القانون الذي تتبناه قوى سياسية، فلسفتها الوحيدة: ماديتها ومصلحتها ومنفعتها، على حساب اللبنانيين.
فكان القائد الذي ينتصر للعسكر لا للشهبندر، والجنرال الذي يتمرّد على الوزير لأنه يشعر بثقل الوزر الذي يحمله، ويعايشه على أرض الواقع، ويدرك أن الآخرين أهل زواريب ضيقة ونظريات "ميكيافيلية"، ينتظرون من الدولة أن تمنحهم الأعطيات، بينما كان واجبه حماية هذه الدولة بحفظ ماء وجه جيشها، لأنه متى تهمّشت صورة العناصر تداعى جسد الدولة بالسقوط المدوّي.
وفي الموازاة، جاءت كلمة الرئيس المكلف نواف سلام متمّمة لروحية خطاب القسم.
قال سلام من بعبدا، متسلّحاً بنفحة وحدوية، وجرعات من التفاهم والشراكة الوطنية: "أنا هنا لتحقيق تطلعات الشابات والشباب، تطلعات التغيير وبناء دولة عادلة قوية حديثة ومدنية نستحقها جميعاً".
غرّهم سلام بوداعته وهدوئه وكتبه ومكتبته، وأنه آت من غير حزب يناصره، ولا جماهيرية تؤيّده، رغم إدراكهم أن "الجو العام"، الغربي والعربي والمحلي، يشكل أداة ضغط كبرى، وأنه ليس لثنائي من هنا ورباعي من هناك أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فهو قطار اللبنانيين الأخير، إمّا الصعود نحو اللبنان المنشود وإما الهبوط الأبدي، في شرق أوسط يتشكّل على دماء مواطنيه.
وبعد مدّ وجزر توزيريّين، استجمع النواف العالي القدر قواه، رافضاً "رئاسة ساعي البريد"، "ليبان بوست" السياسية انتهت إلى غير رجعة، والحقائب الوزاريّة ليست مكرّسة لا في محاضر مخفية، ولا لدى أشخاص منسيّين، إنما الطائف بنوده جليّة، وأرانب "النبيه" لا يجب أن تدخلنا في التيه، ومن يستحضر الأرواح لإشهادها على ما راح، يكذبها جميعاً، بحيث يمنعها من تكذيبه، وفي قاموسنا ذكر محاسن الأموات أولى من نعتهم بإخفاء الأسرار.
ولأننا شعب مرهق، قمنا في التاسع من الشهر الحالي، من غيبوبة وطنية دُفعنا إليها دفعاً، ولأننا لا نمتلك تأميناً على الحياة، ولا قدرة لدينا على الطبابة والاستشفاء ولا زيارة الطبيب في عيادته، اجتهدنا ذاتياً في تشخيص أوجاعنا، فوقعنا على حقيقة مريرة: فيتامينات الأمل صفرية، والبروتين الوطني تحت المسموح به، أما الحديد الذي يسهم في اكتساب المناعة اللبنانية، فكان من المفقودين اللبنانيين في سوريا، ولم يجد من يسأل عنه.
فحوّلنا الرصانة التي كتب فيها خطاب القسم والسلام الذي أتى بها نواف، إلى مضادات للالتهابات الداخلية، ما إن تجرعنا منها أول حبة، حتى أينعت زهرة الأمل فينا، وزادنا الأمل إيماناً بأننا أهل قدرة وإرادة، وكانت سلوتنا أن مطالبنا دستورية مؤسساتية قانونية دولتية. فنحن شعب يريد نظاماً يحميه ويؤمّن له معيشته بكرامة، نظاماً يأخذنا للمستقبل عبر طائرة حديثة رقم رحلتها مرصود من الرادارات الدولية، لا ظلاماً يعيدنا إلى زمن "التسللات الإقليمية"، حيث لا أهداف مرجوّة لنا بل علينا.
فخامة الرئيس، دولة الرئيس، امضيا قُدُماً، ولا منّة لأحد عليكما، أتيتما إلى قمة الدولة ليس لأنهم يريدونكما، إنما لأنكما تشكّلان الضدّ لمن لم يستطيعوا الاتفاق عليهم، لتنسينا ثنائيتكما ذكرياتنا الملطّخة بالأيام المجيدة والأرانب مع "الحزب" و "الحركة"، وفساد القوى التي زايدت في الإصلاح والتغيير وسرقة المال العام، وليكون عهدكما إيذاناً جديداً لحكم غير مألوف، ولعمل سياسي متناغم مع تطلعات الشعب.